إلى كلّ أسرة جزائريّة قدّمت شهيدا في سبيل تحرير الجزائر. أقدّم هذه الصّورة النّاصعة النّقيّة من صور الجهاد والتّضحية، ألا وهي تلك الّتي رسمها وصنعها الشّهيد بوزيدي محمّد «عقب اللّيل»
المقدّمة
هذا الكتاب هو محاولة مختصرة للتّعريف بشخصيّة بطل من أبطال الثّورة التّحريريّة ومقاتل باسل، عمدت قيادة وجدة، وعلى رأسها بوصوف و بومدين، إلى طمسها وتغييبها من ذاكرة الثّورة دون أن تتمكّن من ذلك. فقد ظلّ اسم الرّجل يتردّد على كلّ لسان، وظلّت سيرته وبطولاته تُحكى وتنتقل من جيل لآخر.
من جهة أخرى فهو أيضا دعوة إلى ضرورة التّنقيب والتّدقيق في أحداث وتاريخ الثّورة التّحريريّة، وضرورة كشف الغطاء عن مختلف رجالها ، للتّمييز بين قادتها وأبطالها الحقيقيّين وبين أولئك المدّعين والمزوّرين المتآمرين ، لأنّ كلّ ذلك سيظلّ له ارتباط وثيق وتأثير عميق على مستقبل الجزائر ومسيرة شعبها، إمّا نحو التّردّي أو نحو الأفضل.
تناقضات الثّّورة
تتميّز كلّ ثورة شاملة الّتي تجيء أحداثها بتغيرات جذرية عارمة، وبغضّ النّظر عن ظروفها التّاريخيّة وطبيعة أهدافها وأغراضها، بأن تتشكّل في خضم أحداثها ومعاركها وصراعاتها الطّاحنة، ومنذ البداية، ثلاث فئات محوريّة من النّاس، فتبلغ درجة من الوضوح وا لتّمايز،حتّى تصير في نهاية المطاف متباينة وأحيانا متضادّة، مختلفة الطّبيعة البشريّة ومتعارضة في التوجّهات ثمّ النّوايا والأهداف.
الفئة الأولى هي فئة الزعماء و الأبطال. هم أهل الصّدق فيما تعاهدوا عليه، شديدون في إيمانهم ومبادئهم، حريصون على تنفيذها والتّمسّك بها والإعلاء من شأنها، ولا تصدّهم من أجل ذلك الأهوال والصّعاب، شيمتهم الصّدق والإخلاص والتّضحية.
الفئة الثانية هي فئة المتآمرين و المراوغين. هم أهل النّفاق والمراءاة ، مواقفهم غير واضحة ، بل ملتوية وغامضة. يتظاهرون في كلّ تصرّفاتهم بما ليس في طبعهم ولا في إيمانهم. تنطبق عليهم معاني الآية القرآنيّة الّتي تقول: «كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون». هؤلاء يتربّصون بالآخرين، ويتراجعون إلى الخطوط الخلفيّة، تجنّبا للمخاطر واتّقاء لأهوال الثّورة. يخطّطون بمكر ودهاء ليوم يرونه لا محالة قادم. ومن ذلك، يعمدون إلى الدّسائس والمؤامرات ضدّ كلّ من يتصدّى لهم ويخالفهم في هذه الطّبيعة أوفي هذا التوجّه المريب.
الفئة الثالثة هي فئة الخونة. هؤلاء يعارضون علانية وجهرا الثّورة ومقاصدها، فلا يؤمنون بأهدافها ولا توجّهاتها. ولذلك فهم لا يتورّعون في الانضمام إلى معسكر الأعداء،حيث يرتبط مصيرهم وتنهض مصالحهم على أساس ذلك. وهم قبل كلّ شيء، يتوسّمون في موقفهم هذا، حسن القرار ورجاحة الاختيار، وربّما الفطنة وشدّة الذّكاء.
إذا كان من الطّّّبيعي أن يتواجد أفراد هذه الفئات الثّلاث في كلّ موقع من مواقع الثّورة، وفي جميع المستويات، في جمهور العامّة، وعلى صعيد النّخبة والقيادة، فإنّ العبرة من كلّ ذلك تكمن في أن يتصرّف ويتشبّع كلّ فرد مهما كان موقعه بما يتناسب، وطبيعة هذه الفئة أو تلك.
لعلّه من الضّروري الإشارة في هذا السّياق، بأنّ الثّورة الجزائريّة عام 1954 تعتبر من أبرز الثّورات التّحريريّة في القرن العشرين، الّتي تشكّلت فيها هذه الفئات الثّلاث الأساسيّة. بل يمكن القول؛ بأنّ الثّورة الجزائريّة منذ انطلاقها انطلقت معها بطولات الأبطال، إلى جانب مؤامرات ودسائس المتآمرين، وخيانة الخونة المتخاذلين. كلّ ذلك تبلور مرّة واحدة وتجسّد في ميدان واحد مشترك هو ميدان الثّورة. فتفانى رجال في محاربة الاستعمار وأقدموا على التّضحية، وتفانى البعض في المؤامرات والدّسائس، وتمادى آخرون في الخيانة والتّشبّث بالرّوح الانهزاميّة.
ينبغي الإشارة في هذا المضمار؛ بأنّه بقدر ما كانت هذه الفئات الثّلاث متمايزة وواضحة أثناء الثّورة التّحريريّة، فإنّ أمرها بات مختلطا في مرحلة الاستقلال، و متداخلا إلى درجة كبيرة، خاصّة بين فئة الأبطال و فئة المتآمرين. هذه الفئة الأخيرة التي تسنّى لها السّيطرة والتّغلغل إلى مراكز السّلطة، فعبثت بمصالح المجتمع الجزائري، بعد أن أسّست نظاما سياسيّا عماده المؤامرات والدّسائس والاغتيالات، في غياب يكاد أن يكون مطلقا، لأولئك الزّعماء والأبطال الحقيقيّين، الّذين كانوا يمثّلون بحقّ آمال وطموحات الأمّة أثناء الثّورة التّحريريّة. حيث واقع الحال يؤكّد بأنّهم قد قضوا نحبهم واستشهدوا في أغلبيّتهم السّاحقة. أمّا من أدرك منهم عهد الاستقلال، فقد أصابهم من الاضطهاد والتّنكيل، ما جعلهم يتوارون عن الأحداث، ويتركون مصير الجزائر لعبث العابثين ومؤامرات المتآمرين.
إنّ هذه الفئات الثّلاث في الثّورة الجزائريّة ما كانت في يوم من الأيّام مغلقة مستغرقة، بحيث لم يتخلّلها لا زيادة ولا نقصان، بل كانت هناك الأخطاء والنّقائص بين الزّعماء والأبطال، كما كانت هناك المواقف والاعتدال بين المتآمرين،
و صحوة الْضّمير بين الخونة. رغم ذلك، هذا لم يمنع من أن يكون مصير الثّورة الجزائريّة مرتبطا أشدّ الارتباط بحالة هذه الفئات الثّلاث. كما أنّه لم يمنع أن يكون مصير الجزائر المستقلّة ومستقبلها مرتبطا بتوجّهات الفئة الّتي حازت على السّلطة وتمكّنت من الحكم. وانطلاقا من هذه المتناقضات نستطيع لا محالة أن نفهم بطريقة أوبأخرى، لماذا صارت أوضاع المجتمع الجزائري متردّية في كلّ شيء، ولماذا فشل النّظام السّياسي أن يرتقي إلى مستوى طموحات الثّورة وآمالها، عبر التحوّلات المختلفة الّتي شهدها منذ استقلال الجزائر.
الشّخصيّة الثّوريّة المتميّزة
كان “عقب اللّّّيل” من أولئك الجزائريّين الّذين ينتمون إلى الرّعيل الأوّل من الزّعماء والأبطال، الّذين تمكّنوا من الانطلاق بالثّورة التّحريريّة بكلّ صدق وإخلاص. فحارب الجيش الاستعماري بشجاعة وبسالة، ووقف في وجه المتآمرين والمتخاذلين وتصدّى لهم، وهم يهربون ويتراجعون إلى الخطوط الخلفية. كما تتبّع آثار الخونة، وكانت له في هذا مواقف مشهودة، فصنع من خلال ذلك شخصيّته الثّوريّة المتميّزة، حتّى أصبح معروفا عند الجميع بشجاعته وإقدامه على الكفاح والتّضحية، فواجه المخاطر تلو المخاطر، دون تهرّب أو تردّد أو تراجع. ومن أجل ذلك، فقد أحبّه الجميع، وعلت مكانته وتميّزت في ميدان الثّورة ومعاركها.
كان صاحب هذه الشّخصيّة الثّوريّة صارما متشدّدا، ترتسم على وجهه نظرات حادّة ثاقبة، تخترق الأعماق. اسمه في كلّ مكان، كان يعني ما يعني من شدّة وحزم وانضباط، فكان مصدرا للرّعب في أوساط الجيش الاستعماري والمعمّرين، وكانت الأمّهات في البادية كثيرا ما تخيف باسمه الأطفال عند بكائهم أثناء اللّيل قائلات: »توقّف عن البكاء وإلاّ فسيسمعك عقب اللّيل». في مدينة تلمسان، حيث أصبح اسمه شائعا منذ اندلاع الثّورة، فقد كان هناك من يتصوّر أنّ هذا الرّجل لا يلبث أن يتواجد في كلّ مكان وفي أيّ وقت، فحُكيت حوله القصص، منها ما كان حقيقة ثابتة، ومنها ما كان مبالغات أو ضرب من الخيال. ولعلّ السّبب في كلّ ذلك، لم يكن سوى نتيجة لشهرته، بعد ما أصبح متمكّنا في جميع العمليّات الثّوريّة، الّتي خاضها رفقة المجاهدين. في هذا المعنى، قال فيه ذات مرّة أحد أبطال الثّورة في الغرب الجزائري، وهو قائد القسم الثّالث الشّهيد بوسيف1، وهو يخاطب في إحدى المناسبات جمعا من المجاهدين:«كلّنا نحن رؤساء الأقسام، نقوم من حين لآخر بعمليّات و كمائن ضدّ الجيش الاستعماري، ورغم ذلك فالّذي ينال الشّهرة، ويُذكر بين النّاس ليس إلاّ عقب اللّيل». إنّهم كانوا ينسبون إليه معظم الأعمال البطوليّة، سواء كان هو الفاعل، أو غيره من المجاهدين.
لا أعرف أحدا من رجال الثّورة التّحريريّة لُقّب و في فترة وجيزة من الكفاح بهذه الأسماء العديدة، فقد عرف الرجل بالأسماء التالية: “محند لحسن” ، “السّي مختار” ، “عقب اللّيل” ، “عبدو”، “عبّادي” . من الواضح أنّ تعدد الأسماء لهذه الشّخصيّة الثّوريّة كان لا محالة لضرورة، وهي التّخفّي عن أعين الإدارة الاستعماريّة ، وعن أعين الحركة والبيّاعين. كما أنّ لذلك دلالة بالغة عن مدى حرص شرطة الاستعمار ومخابراته في تتبّع آثاره، والبحث عنه لقتله أو القبض عليه.
كيف لا وقد كبّّد المجاهدون بقيادته الجيش الاستعماري خسائر كبيرة في هجومات وعمليّات متتالية، كانت في أغلبها تُتوّج بالنّصر والتفوّق على العدوّ. قد اتّضح حرص الإدارة الاستعماريّة الشّديد للقضاء على هذا الثّوري الأصيل في إقدامها على إجراء غير مسبوق بالمرّة في المنطقة كلّها، وقد تمثّل ذلك في رصد مكافأة ماليّة قُدّرت بحوالي خمسة وثلاثين مليون فرنك أواخر عام 1956، تعطى بسخاء لكلّ من يخبر بطريقة أو بأخرى عن مكان وجوده. ذلك بعد ما قام المجاهدون بقيادته محاصرة قرية “صبرة” واقتحامها.
هكذا كان عقب اللّيل ثوريّا بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة. لقد تجسّدت معاني ومقوّمات الثّورة في شخصيّته، بل وفي كلّ سلوكاته وتصرّفاته في شتّى المواقف. لطالما كان يقول للمجاهدين، إذا ما فكّروا في مصير أولادهم وتذكّروهم، والشّدائد والمخاطر تحيط بهم من كلّ حدب وصوب:«أولادنا كأيّ واحد من الجزائريّين…ففي اليوم الأوّل لم نعاهد أولادنا، وإنّما عاهدنا الشّعب الجزائري لكي نحرّره…». و ليت شعري؛ هل هناك كلمات تُعبّر عن صدق التّضحية والإخلاص للوطن أبلغ من هذه! ومهما كان الأمر فالفخر كلّ الفخر لعقب اللّيل و أمثاله الشّهداء.
يكفي الإشادة بمكانته أن أشير؛ بأنّ النّاس ما يزالون يذكرون بطولاته رغم مرور عشرات السّنين. تلك محبّة بلغت في قلوبهم مبلغا قلّما نسمع عن مثلها في مكان آخر. عُرف عن هذا الرّجل بأنّه كان يُؤثر المجاهدين عن نفسه في كلّ شيء. فكثيرا ما شُوهد وهو يسلّم سلاحه المفضّل لأحد المجاهدين، لا لشيء سوى لأنّ ذلك المجاهد رغب أن يكون بحوزته مثل هذا النّوع من السّلاح. وكثيرا ما نزع قميصه من عليه ليعطيه إلى مجاهد آخر لأنّه نظر إلى قميصه فوجده ممزّقا في ناحية من نواحيه. فبهذه الصّورة البسيطة كان يصنع مواقفه، مّما أضفى على شخصيّته فاعليّة وإقداما لا يُضاهى. فقد ذكر بعض المجاهدين مّمن رافقوه وعايشوه في الكفاح، بأنّه في إحدى المرّات وهو مارّا بمنطقة ولاد رياح ، وهي أرض بين زناتة وصبرة ، في صيف عام 1955، إذ صادف في طريقه شيخا وقد غمره الحزن والأسى وهو يتأمّل أرضه المغطّاة بالشّعير، وقد أخذت سنابله تتساقط بعد أن أدركه موسم الحصاد. فألقى عليه السّلام ثمّ قال: «…لماذا تركت هذا الشّعير يتساقط ولم تقم بعد بحصاده؟»، فأجابه هذا الشّيخ بأنّه ليس هناك في المنطقة كلّها أيّ رجل يمكن أن يساعده في عمليّة الحصاد، فلم يجد أمامه إلاّ النّساء والأطفال.غادر عقب اللّيل المكان وترك الشّيخ على حالته حائرا متأزّما، ولكن كم كانت المفاجأة عظيمة عندما عاد إلى أرضه في اليوم الموالي، ليشاهد مجموعة من المجاهدين في أيديهم المناجل وعلى أكتافهم البنادق، وهم منغمسين في عمليّة الحصاد في وضح النهار، ولم يغادروا المكان إلاّ بعد أن أنهوا عملهم على أحسن وجه.
لا شكّ أنّ خصال هذا الرّجل الثّوري متعدّدة، لدرجة ظلّ النّاس يذكرونها دون كلل أثناء الثّورة كما بعد الثّورة. فمن حرصه الشّديد على صيانة الثّورة، و شأنه في ذلك كشأن الرّعيل الأوّل من الثوّار الجزائريّين، إلى صرامته كقائد ثوري، إلى صفاء سريرته وحسن خلقه. خاصّة في تعامله وعلاقاته مع المجاهدين. إلى جانب ذلك؛ فقد كان شديدا حادّ المزاج، لا يتردّد أو يتراجع أمام المهامّ الثّوريّة مهما كانت خطورتها. مواقفه الثّورية “سيف قاطع” كان يجسّدها في الميدان، وإن كانت ذات صعوبة فلم يكن هناك أهمّ من مصلحة الثّورة. من هذا المنطلق، فكم كانت ردود فعله شديدة وحاسمة تُُجاه بعض العناصر الثّوريّة الّتي كانت تتردّد أو تتخاذل في تنفيذ بعض العمليّات الثّوريّة. ففي إحدى زياراته لمدينة تلمسان في الشّهر الأوّل أو الثّاني من عام 1956 ،حيث التقى ببعض المسؤولين المحليّين بهذه المدينة وهم؛ إبراهيم العربي ، بوعياد ، بريكسي رقيق عبد الحميد، مصطفى بن يلس، فقد واجه هذا الأخير بحدّة ووبّخه بشدّة نتيجة لتردّده في تنفيذ بعض الأوامر الثّوريّة، وقد عمد هذا الرّجل منذ ذلك الحين، نتيجة لارتباكه، إلى كتابة تقارير سرّيّة حول قائده إلى “جماعة وجدة”، الّتي كان عقب اللّيل قد دخل معها في خلاف حادّ بسبب إقدامها على نقل قيادة الثّورة إلى مدينة وجدة المغربيّة.
له في هذا الشّأن حكايات ومواقف عدّة. من ذلك على سبيل المثال؛ ما تعوّد على قوله لكلّ المتخاذلين والخائفين في مثل هذه المواقف:«عليك أن تطبّق أوامر الثّورة وإن كانت خطيرة على حياتك…أمّا إن كنت خائفا من الموت، فعليك أن تعلم علم اليقين أنّنا جميعا سنموت في يوم ما ، والمهمّ حياة الثّورة هي الّتي تستمرّ وتبقى، لأنّه حتما سيأتي في كلّ وقت من الجزائريّين من يخلفنا». من الأمثلة التي تبّين وجها آخر من شخصيّة هذا الثائر ما يذكره المجاهد عنتر2. هذا المجاهد الذي جاء هاربا من الجيش الاستعماري، والتحق بالمجاهدين في أوائل عام 1956. قد صادف هروبه أن كان الشّهيد العربي بن مهيدي قائد الثّورة في الغرب الجزائري في لقاء مع عقب اللّيل بأرض زكدونة3. فقد تمّ تجنيده في تنظيم القسم الخامس بحضورهما معا، ليصبح بعد ذلك رائدا مغوارا لكثير من العمليّات الثّوريّة النّاجحة ضدّ الجيش الاستعماري ومراكزه.
يذكر هذا المجاهد؛ وبعدما التحق بالثّورة، كيف وجد المجاهدين في تنظيمات القسم الخامس، على غير ما كان يتوقّع، منظّمين تنظيما عسكريّا لا يقلّ عن تنظيم الجيش الاستعماري. وكيف وجد جنود المجاهدين وبحوزتهم الكثير من الأسلحة الآليّة والثّقيلة. وكيف كان من حين لآخر يجمعهم قائدهم عقب اللّيل ليلقى عليهم ما كان يسمّى بلغة الثّورة “الدّرس”، وهو عبارة عن خطبة قصيرة، الغرض منها توعية وتوجيه المجاهدين بما يدعّم حماستهم الثّوريّة. ثمّ كيف كان يختم كلماته كعادته دائما بإطلاعهم على جميع المستجدّات الّتي تخصّ مسيرة الثّورة، ومن ذلك يتلو عليهم أسماء المجاهدين الّذين سقطوا في ميدان الشّرف حيث كان يختم كلّ ذلك بتلاوة الفاتحة ثم قراءة الآية القرآنية:«ولا تحسبّن الّذين قُتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربّهم يُرزقون».
يذكر هذا المجاهد أيضا، كيف كان عقب اللّيل مرتابا وغير مطمئنّ لأمره في الأيّام الأولى من التحاقه بالثّورة، لأنّه الشّخص الّذي قدم مباشرة من الجيش الفرنسي دون سابق اتّصال. لذلك وضع بطريقة سريّة نظاما لمراقبته وتتبّع خطواته. ولم يتوقّف في الشّكّ بأمره، إلّا بعد أن قام باختباره من خلال عمليّة هجوميّة جريئة، قام هو نفسه بالتخطيط لها وتنفيذها، وهي العمليّة الّتي استهدفت حرق وتخريب مزرعة جيرون بناحية مدينة الرّمشي في ماي عام 1956، وقد أشارت إليها آنذاك الصّحافة الاستعماريّة في جريدة ” ليكو دورون”4. حيث انتهت العمليّة بتخريب المكان بصورة كاملة، وقتل ثلاثة عناصر من العسكر الفرنسي واغتنام عدد من قطع الأسلحة الرّشّاشة.
ما زال المجاهد عنتر يذكر كلّ ذلك بكلّ اعتزاز وتفاخر ، خاصّة وأنّ عقب اللّيل قام على أثر ذلك، وبعد نجاح هذه العمليّة بتعيينه قائدا لمجموعة من المجاهدين في القسم الخامس، حيث أصبح له بعد ذلك شأنا في تدريب المجاهدين الملتحقين بالثّورة على استعمال الأسلحة المختلفة. كما نال أيضا شهرة واسعة في خوضه للكثير من المعارك والعمليّات الثّوريّة.
يمكن القول كذلك، بأنّ شجاعة وشهامة هذا الثّائر الأصيل “عقب اللّيل”، لم تكن تتمثّل في معاركه ضدّ الجيش الاستعماري فحسب، بل وفي نصرته للمجاهدين والذّود5 عنهم، بجميع الوسائل والإعلاء من معنويّاتهم، بالتّوجيهات تارة وبالمواقف الصّارمة تارة أخرى. فلا عجب إذ صار في المنطقة الحدودية الغربية كلّها
مثالا يحتذى في التّضحية والالتزام بمبادئ الثّورة وحرمتها وقداستها. ولعلّّّه حين قام بتوبيخ وتهديد “هواري بومدين” في أحد المواقف الحرجة، إنّما كان ذلك تعبيرا عن مواقفه الثّوريّة الصّارمة، وصورة لحساسيّته الرّفيعة بمقدّسات الثّورة والجهاد، حيث لم يكن يقبل المساس بذلك مهما كانت الظروف.
بعدما أُعطيت لهوّاري بومدين مسؤولّية مراقب عامّ للجيش في أكتوبر عام 1955، من طرف عبد الحفيظ بوصوف الذي كان بدوره نائبا للشّهيد العربي بن مهيدي ، فقد مكث على إثر ذلك في منطقة القسم الخامس، الّذي كان يقوده “عقب اللّيل” بضعة أسابيع، يمارس هذه المهمة. وقد حدث وهو يقوم بتلقين حركات عسكرية لمجموعة مبتدئة، انخرطت في صفوف المجاهدين في أحد المواقع، بين جبال موطاس وأحفير، أن ارتبك وأخطأ أحد المجاهدين وهو يؤدي حركة الدوران إلى الخلف، فغضب لذلك هواري بومدين، ولم يتمالك نفسه وقال له بانفعال: «يا ربّك قلت لك دور خلْف». نزلت هذه الشتيمة كالصاعقة على هذا الجندي الريفي البسيط. فلم يسبق له أن سمع بمثل هذا في أوساط المجاهدين، حيث كانت روح السماحة والجهاد هي التي تربط بينهم جميعا. ولم يستوعب أيضا، كيف يصدر مثل هذا التصرف من مسؤول في الثّورة بهذه المكانة! انسحب هذا المجاهد من صف المجاهدين وانزوى في أحد الأمكنة وقبع هناك، لا يتحرك ولا يكلم أحدا، وهو في حالة تأزم شديدة وتوتر حاد.
ولم يمض وقتا طويلا حتى وصل خبر هذه الحادثة إلى عقب اللّيل، الذي التحق بهذه المجموعة من المجاهدين مباشرة، حيث كان في مكان مجاورا وقريبا منها، وما يزال بومدين في عين المكان. وما أن أدركه حتى تفحصه بنظراته الحادة، ثم قال له بلهجة شديدة قاسية:«أتعلم يا بومدين بأنّ هذا المجاهد الذي شتمته بالرّب، قد ترك زوجته وأولاده والتحق بالجبال، من أجل تحرير الجزائر، ولم نقدّم له مقابل ذلك أي شيء حتى جئت أنت، ولا أعرف من أين ؟ لتكافئه بكل وقاحة بسبّ الربّ ، فوالله ثم والله، لو سمعتك تعاود ذلك في وجه أيّ مجاهد لغبّرت بك شعبة»، بمعنى لحفرت قبرك في أحد الشعاب. بطبيعة الحال، كان بومدين من جهته على معرفة تامة بمواقف عقب اللّيل التي تطغى عليها الشدة والصرامة. كما كان متيقنا أنّ الرجل لا يهدد بشيء إلاّ ونفذه. كان يعلم كلّ ذلك، لأنه شاهده عن قرب في مواقف مشابهة، سواء تعلق الأمر بشدته في مواجهة الجيش الاستعماري والخونة، أو تعلق الأمر، بضرورة الضبط والحسم في تسيير مقتضيات الثّورة.
كانت هذه الحادثة وما سببته من إهانة لشخصية بومدين أمام جمع من المجاهدين، سببا كافيا بأن تحتقن نفسيته منذ ذلك الحين، بالحقد والكراهية فأضمر السوء لـعقب اللّيل. وتشبّع بروح الانتقام6، لدرجة حرص أشد الحرص، بعد ذلك بأن لا يكون موجودا في المكان الذي يتواجد فيه عقب اللّيل. وقد تعاظمت هذه الأشياء بداخله شيئا فشيئا، خاصة بعد ارتحاله إلى مدينة وجدة ضمن “جماعة وجدة”حتى صار شغله الشاغل هو العمل بشتى الوسائل والطرق للتخلص من هذا البطل الثوري المغوار .
هكذا إذن ، كانت ردود الأفعال الثّوريّة والحاسمة لهذا المجاهد سببا لشهرته وزعامته في أوساط المجاهدين، بل وبين عامة الناس جميعا. بينما كانت سببا من جهة أخرى، لإثارة الأحقاد والضغينة في نفوس أولئك الذين لم تسعفهم مكوّناتهم الشخصية بأن يحققوا في الميدان مثل هذه المكانة، ومثل هذه البطولات، حيث انتهى بهم المطاف إلى التقوقع في مدينة وجدة، والتفرغ بعد ذلك لحبك المؤامرات ضد الأبطال الحقيقيين للثورة، ثم الركون إلى القيادة الإدارية للثورة من خارج الثّورة، بمنأى عن جميع المخاطر، وبعيدا عن أي مجازفة.
ويمكن القول؛ أن ما يحكى حول هذا القائد الثوري العتيد، من مواقف وبطولات ليثير الإعجاب. فهي مواقف كثيرا ما كانت تجتمع فيها الحدة الشديدة إلى جانب التلطف الجميل. ومن ذلك على سبيل المثال:
لقد أثار بعض الأشخاص من أهل الريف بمنطقة قرية صبرة لم يكن مقتنعا بأن هناك ثورة ضد الاستعمار قد انطلقت منذ بضعة أشهر. ولم يكن يخطر في باله أنّ هناك مجاهدون مدربون ومسلحون، يواجهون الجيش الاستعماري. ذلك لأنه لم يسبق له أنّ شاهد أحدا منهم. فأشاع بذلك هذا الشخص ، الكثير من الشك والغموض بين أفراد “دشرته”، خاصة عندما أخذ يقول للناس علانية: «كيف يمكن لهؤلاء الهاربين في الجبال وهم قلة؛ ولا يملكون إلاّ بنادق الصيد والخناجر ، كيف يمكنهم التصدي إذن للدبابات والطائرات الحربية ، إنه لشيء يدعو إلى الاستغراب والسخرية؟»
ولمعالجة هذا الوضع والوقوف في وجه هذه الشائعات، فقد اقترح بعض المجاهدين، ضرورة تصفية هذا الرجل، وجعله مثالا لكلّ من تسول له نفسه إثارة مثل هذه الدعايات المحبطة للهمم، والمثيرة للشكوك. إلاّ أن عقب اللّيل لم يحبذ هذا الاقتراح، بل كان له رأيا آخر، حيث أمر أن يُجمع الفرق المختلفة للمجاهدين، وجعلها في صورة تأهب واستعداد بحيث تكون معبّئة بكل ما تتوفر عليه من إمكانيات عسكرية ، الأسلحة الخفيفة بالإضافة إلى الثقيلة، وأن تقتحم الدشرة أثناء غروب الشمس، ليشاهد جميع الناس ومن بينهم الشخص المروّج لهذه الإشاعات، حقيقة المجاهدين وهم في منتهى النظام وفي أتم الاستعداد، بما لديهم من إرادة ويملكونه من أسلحة مختلفة، وهو الأمر الذي يعكس بوضوح قدرة المجاهدين على مواجهة الجيش الاستعماري مهما عظمت قوّته وعدّته.
لقد كان شيء مثيرا بالنسبة لأهالي الدشرة حينما شاهدوا ما شاهدوه، من أمر المجاهدين، ووقفوا على مدى عدّتهم واستعدادهم لخوض غمار الحرب والقتال. ولعلّ هذا الموقف كان كفيلا بإقناع الجميع بجدية الثّورة وبحقيقة إمكانيات المجاهدين. خاصة وأن هؤلاء الأهالي لم يسبق لهم أن شاهدوا أي فرقة منهم، بهذه الصورة وبهذا النظام وبهذه القوة والعزيمة.
كما أنّ هناك موقف آخر يدل على شدة ومرونة هذا الرجل الثوري في آن واحد. فقد اختلى به ذات مرة أحد المجاهدين الأبطال، يدعى “بلعربي الوهراني”، وهو من ضمن الفرقة الخاصة التي كانت ترافقه بصورة دائمة. هذا الرجل الشجاع الذي أسره الجيش الاستعماري على إثر كمين مفاجئ، لكنه استطاع بعد ذلك وفي وقت قصير، أن يفلت منهم ويهرب بطريقة غاية في الإثارة، رغم كونه كان مقيّد الرجلين واليدين وتجره سيارة “جيب” بحبل مشدود في رقبته. رغم ذلك فقد تمكن من الإفلات من الموت وعاد إلى صفوف المجاهدين. أقول فقد اختلى هذا المجاهد بقائده وهو في حالة تردد وحيرة وما لبث أن قال له بطريقة مباشرة «ألا تظنّ يا عقب اللّيل بأنه عندما تستقل الجزائر سيجيء أناس آخرون قد يكونون من الخونة، أو من أولئك الذين يقودون الثّورة من وراء الحدود (جماعة وجدة)، فيسيطرون على كل شيء باسم الشهداء ، ويتسابقون على الكراسي والمناصب، بينما نحن المجاهدون الحقيقيون، سيكون وضعنا وحالنا كالمتفرج من بعيد على “الوليمة”، فكيف يكون مصيرنا ومصير أولادنا ، وأي مكان يكون لنا في الجزائر الحرة المستقلة»
اندهش عقب اللّيل لما سمعه من رفيقه في الجهاد. فتأمّله طويلا ثم قال له بلهجة غاضبة شديدة، وفي نفس الوقت مشوبة بتلطف وحنان «إنني أعتقد بأن كلامك على صواب. ، بحيث أؤكد لك بأن الكثير من الجبناء ومن أشباه المجاهدين، الذين لم يطلقوا رصاصة واحدة ضد العدو، ولم يشاركوا في أي معركة، سوف يتحولون بين عشية وضحاها بعد استقلال الجزائر إلى أبطال وزعماء، بالإضافة إلى ما سيقولونه للناس حول أنفسهم، من كذّب و ادعاءات عن بطولاتهم؟ ولكن رغم ذلك كله عليك أن تسمعني جيدا ، الحمد لله، لأنك قلت لي هذا الكلام وليس هناك أحد سوانا ، وأقسم بالله العلي العظيم، وأقسم بدم الشهداء الأبرار، لو عدت لتقول مثل هذا، أمام أي مجاهد آخر لقتلك بنفسي، وأنت تعلم أن مكانتك ومعزّتك عندي، لهي أفضل وأعظم من معزة أولادي»
انصرف هذا المجاهد وفي نفسه مسحة من التأزم وشعوره كمن اقترف ذنبا، أو ارتكب خطأ فادحا. ولكن بمرور الأيام وتزايد التجارب والملاحظات، أدرك وفهم ما كان يقصده رفيقه في الجهاد من معنى ومغزى، حين خاطبه بتلك اللهجة القاسية، لدرجة لم يتردد بتهديده بالقتل. أدرك أنه مهما كانت حقيقة أولئك الذين سيسيطرون على الجزائر في المستقبل، ومهما انقلبت الأوضاع، بحيث تسمح للجبناء والمتآمرين أن يقفزوا من الصفوف الخلفية الضبابية إلى الصدارة والزعامة، فذلك كله لا ينبغي بأي حال من الأحوال، أن يكون مبررا لإطلاق مثل هذه الظنون والتصورات، أو الشكوك في أوساط المجاهدين. وذلك حتى لا نضعف هممهم، أو تلين استماتتهم في تحقيق مسعاهم الأساسي والوحيد، ألا وهو تحرير الشعب الجزائري لا غير.
شاءت الظروف، فبقي هذا المجاهد إلى أن شاهد الجزائر المستقلة، وشاهد “جماعة وجدة”، و”جماعات أخرى”، كيف هرولت وانتقلت في سرعة البرق إلى العاصمة لتسيطر على مراكز القوة، معتمدين في هذا على قوة الجيش والاستخبارات. شاهدهم كيف تقاتلوا وتسابقوا على الاستحواذ على السلطة، ومن أجل ذلك أعلنوا حربا ضد جميع الأطراف الأخرى. فحاكوا المؤامرات، والتي كانوا مدربين عليها أحسن تدريب طيلة سنوات الثّورة في مدينة وجدة، وكان رائدهم ومكوّنهم في كل ذلك عبد الحفيظ بوصوف. فاغتالوا كل مخالف لهم ومعارض في الداخل والخارج وفي أي مكان. وانطلاقا من هذا تأسس وتكوّن جوهر النظام السياسي، تحت غطاء النظام الاشتراكي. وعاصر كذلك مرحلة أولئك الذين كانوا إلى عهد قريب، منخرطين في الإدارة الاستعمارية وما لبثوا أن احتلوا الصدارة في تسيير وإدارة الجزائر المستقلة. وأكثر من ذلك ، فقد كان شاهدا –قبل أن يتوفى ببضعة سنوات- حين عمد الرئيس هواري بومدين، بعد انقلاب 19 جوان العسكري إلى إقصاء الضباط المجاهدين من صفوف جيش التحرير الوطني بجميع الوسائل، بما في ذلك الإغراءات المادية، ثم استبدالهم بضباط جزائريين كانت لهم علاقة بالجيش الاستعماري، بحجّة ضرورة تحويل جيش التحرير من مجرد كونه تقليدي مدرب على حرب العصابات فحسب، إلى جيش عصري متطور؟
أما عقب اللّيل، فكانت وجهته كغيره من المجاهدين الصادقين عبر التراب الوطني ، إلى التضحية والاستشهاد، حيث لم تكن الثّورة تعني بالنسبة إليه أكثر من ضرورة تحرير الشعب الجزائري من الاستعمار الفرنسي، وما كان ليطمع في شيء غير ذلك. فهو الذي كان يقول لرفقائه المجاهدين في كل المناسبات وبصورة دائمة: «من يموت منا يموت شهيدا ومن يعيش، يعيش سعيدا»7.
كم كان الرجل صادقا في مسعاه هذا، فلا عجب أن تجسّدت بحق معاني الثّورة في كل توجهاته وأعماله. قالت له أخته “سكينة” إثر زيارته لها في إحدى الليالي الحالكة، وقد لاحظت عليه التعب والإرهاق، قالت له: «لا عليك يا ابن أمي ، يا أخي العزيز لا تحزن ، فالجزائر ستنال الحرية بعون الله، وستكون من رجالها الأبطال، وسيعوضك الله بحمده بكل خير، أنت وجميع المجاهدين». فتأملها كما يتأمل الأخ أخته بنظرات مليئة بالعطف والحنان، ثم قال: «لا أنتظر شيئا يا أختاه، فالجزائر عندما تحصل على الحرية، ستكون لأناس آخرين. ثم ماذا أريد، وقد مكنّني الله من كل شيء تمنيته، فقد أرغمت المعمرين الّذين استعبدوا الجزائريين وأذلوهم وجعلتهم في حالة خوف ورعب، كما أرغمت بعضهم وهم صاغرين، على المشي حفاة في البراري وأذقتهم الذل والهوان».
ثم أخذ يذكر لها وقائع الكمين الذي نصبه بمفرده في صيف عام 1956 في أحد منعرجات الطريق الرابط بين تلمسان و مغنية قريبا من دشرة واسار. فقد أوقف في وضح النهار سيارة كان يركبها أشخاص من العمرين، فأجبرهم على نزع أحذيتهم والعودة من حيث أتوا، دون أن يصيبهم بأي أذى، لا لشيء سوى لأنهم كانوا من المدنيين، وقد وقف بعد ذلك مليا ليشاهدهم وهم يهمّون بالفرار حفاة مذعورين.
وبعد أن انتهى من سرد هذه القصة لأخته عاد ليقول لها مجددا: «ماذا أريد يا أختاه، بعد كلّ هذا؛لا شيء سوى التضحية والشهادة في سبيل تحرير الجزائر».
بهذه البساطة المتناهية، وبهذه الشهامة خاطب أخته “سكينة” التي ظلت بعد استشهاده تبكيه وما زالت، وقد بلغت من الكبر و العجز مبلغا. ما زالت هذه “الخنساء” التي فقدت أربع إخوة، لكل واحد منهم قصة مثيرة في استشهاده، ما زالت تنهمر دموعها وتتدفق كدموع الصبيان كلما ذكر اسم أخيها، أو حكيت أمامها قصة من قصصه الثّوريّة وما أكثرها. وكأنها لم تدرك بعد؛ ولم تشعر بأنه مرّ على استشهاده عشرات السنين.
هذا هو الرجل الثائر والثائر الرجل. وهذه بعض من خصاله وصفاته الثّوريّة، التي ما زال الناس يذكرونها من جيل لآخر. تلكم نعمة من نعم الله لا يدركها إلا الشهداء الأبرار. وهذا هو عقب اللّيل أو السي مختار الذي كان اسمه يرهب الجيش الاستعماري، وكان اسمه على لسان الكبير والصغير، كما وصفه أحد الرفقاء من المجاهدين. فنعم الرجل ونعم الثوري ونعم الشهيد.
1الشّهيد بوسيف هو “عرفاوي محمّد صالح”، قائد القسم الثّالث.
2المجاهد “عنتر” هو سحنون محمد، أصبح من المجاهدين المسنين وهو يقيم في قرية الحناية ولاية تلمسان.
3زكدونة: قرية تقع بين حمّام بوغرارة وقرية صبرة.
L’ECHO D’ORAN4
5الدّفاع عليهم
6لعل المجاهدين الذين عايشوا “بومدين” أثناء الثّورة وما بعد الثّورة قد أدركوا فيه مثل الصفات.
7كانت هذه الكلمة شعار الرعيل الأول من أبطال الثّورة والمجاهدين.
عقب اللٌيل
الشهيد بوزيدي محمد ولد الحسن، ولد عام 1918، بدوّار تمكسالت. كانت فيما مضى ، أي منذ عشرات السنين ، المستقر الرئيسي للأسر البوزيدية في ولاية تلمسان. وهي تقع جنوب قريتي : صبرة وبوحلو. موقعها إذن محاذيا للمنطقة الجبلية والأراضي الغابية التي تمتد إلى مرتفعات موطاس. فهي دشرة منعزلة لا يكاد سكانها يتصلون بالجهات الأخرى إلا عبر مسافات معينة. وغني عن البيان؛ بأنّ هذه الدشرة لم يعد لها من وجود؛ فقد قصفها الجيش الاستعماري بمدفعية الدبابات في أواخر عام 1955، بعدما اعتبرها مصدرا وموطنا “للخارجين عن القانون”. ثم عاود قصفها مرة أخرى في صيف عام 1956. في هذه المرة، أمر سكانها بإخلاء المكان وهم حينئذ سوى من النساء والأطفال، حيث كان رجالها إما في صفوف جيش التحرير، أو في السجون والمعتقلات، وعلى إثر ذلك غادر الجميع بيوتهم، وهم لا يعرفون إلى أين يقصدون.1
توفي والداه في فترة زمنية متقاربة ، 1944 و1945، وهي الفترة التي تعرف عند سكان الجهة “بعام الجوع”. حين ذلك ، تولى وفي وقت مبكر مسؤولية إعالة أسرته الكبيرة ورعايتها، وذلك من منطلق واقع الحال، حيث كان هو الأخ الأكبر المتزوج. فضم إليه إخوانه وأخواته إلى جانب أسرته الصغيرة المتكونة من ستة أطفال. ورغم حالة الفقر المدقع والعسر في المعيشة في تلك الأثناء، فقد تولى هذا الرجل الريفي هذه المسؤولية الأسرية ولم يتخل عنها قط. حتى إذا ما جاء وقت اندلاع الثّورة التحريرية عام 1954، وعمّت أحداثها أرجاء الوطن فما لبث أن وجد نفسه في خضم هذه الأحداث، من المحركين الأساسيين ومن الأسماء البارزة في محيط الثّورة بمنطقته التي كان يعيش في أرجائها. فكان بحق الشخص المفعم بالحيوية، والذي يقود الجميع، إخوانه ورجال الدشرة واحدا واحدا2، وجميعهم في سن متقاربة، قادهم وهو يتصدر الصفوف الأولى نحو طريق الجهاد والتضحية ثم الاستشهاد. حيث لم يبق منهم على قيد الحياة في وقت الحرية والاستقلال إلا من كان طفلا، أو من كان له مصيرا آخر، فقبض عليه في السجون والمعتقلات، وهؤلاء قليلون وقليلون جدا.
ارتبط نشاط هذا الرجل منذ الأول بالعمل في الأرض، رغم مساحتها المحدودة ورغم ضعف مردودها بحكم طبيعتها الجبلية. وأمام الحالة المعيشية التي كانت متردية بصورة عامة، فكثيرا ما كان يلجأ إلى العمل بالأجرة اليومية (بحيث لا يضمن إذا كان سيعمل في اليوم الموالي أم لا)، وذلك في مزارع المعمرين المتواجدة بكثرة في المنطقة. وقد استمر الحال بهذه الصورة. عدم استقرار في العمل أحيانا، وعدم توفره بالمرة أحيانا أخرى، ثم تعسّر الأوضاع من يوم لآخر، وذلك حسب الإمكانيات المادية التي كانت تكاد أن تكون منعدمة، إلى حين سنحت له الفرصة للالتحاق بالعمل بمؤسسة الأشغال العامة “سكومة”3، وكان ذلك عام 1947، وهي نفس الفترة التي التحق فيها بصفوف “حزب الشعب الجزائري”. فتحول نتيجة لذلك وبشكل فعال إلى مناضل نشط، تكتسيه حماسة وطنية متأججة. فانشغل على الفور وبعمق بهموم الحركة الوطنية وقضاياها، فأضحى كغيره من الوطنيين ضائقا بسيطرة وهيمنة المعمرين، ناهيك عن تسلط الإدارة الاستعمارية ومحاصرتها واحتقارها للجزائريين. فكان أن تلخصت آماله كلها ، كغيره من الوطنيين ، في التأهب والاستعداد لمقاومة الاستعمار وطرده من البلاد.
في هذه الظروف، تعددت علاقاته وتنوعت اتصالاته مع الكثيرين من رجال الحركة الوطنية، خاصة مع المناضلين في صفوف “حزب الشعب الجزائري”، أو في صفوف “جمعية العلماء المسلمين”. وقد كان من ضمن هؤلاء رجال وطنيون مخلصون، سواء في الجهة التي كان يعيش فيها، أو عبر المناطق الحدودية الغربية. إن هذا التنوع في العلاقات الاجتماعية الذي تميز بها هذا الرجل، بالإضافة إلى اتصاله ببعض المناضلين الناشطين في الحركة الوطنية، ثم تميّزه بشخصية قوية ولبقة محبوبة. كان كل ذلك من الأسباب التي عجلت بأن يتبوّأ مكانة مرموقة في النشاط والنضال ضمن صفوف الحركة الوطنية، خلال السنوات التي سبقت انطلاق الثّورة التحريرية. وقد تجلى هذا الأمر، خاصة بعدما أسندت له مسؤولية مجموعة من الخلايا في “حزب الشعب الجزائري”. بداية في نطاق قرية صبرة وبعد ذلك في مدينة تلمسان. هذه المدينة التي سرعان ما أضحت مقرا أساسيا لنشاطاته ومجالا حيويا لعلاقاته وتحركاته النضالية خاصة بعدما توطدت اتصالاته بالعديد من الوطنيين من أسرة زعيم الحركة الوطنية مصالي الحاج.
ويمكن القول بعد كل ذلك؛ بأن هذا الرجل قد بلغ أوجه في النضال والعمل الوطني بعدما تم له الانخراط عام 1948 بطريقة سرية بالمنظمة الخاصة4، وهي الجناح العسكري في تنظيم “حزب الشعب الجزائري”، الذي كان يجري من خلاله الإعداد الفعلي لانطلاق المعركة المسلحة، ضد الوجود الاستعماري. ومن المعلوم؛ بأن أفراد هذا التنظيم السري كانوا محاطين بعناية خاصة لا يكاد يعرف فيه العضو الواحد الأعضاء الآخرين. فضلا عن عمليات التدريب والإعداد، وتحديد مراكز تحزين السلاح والمؤونة، التي حتما كانت تجري عبر توجيهات بالغة السرية. لا أحد يعلم أكثر مما ينبغي، ولا أحد يدري من أين مصدرها ولا من هم القيمون على ذلك. ورغم هذا، فلا شك أن “عقب اللّيل” كان متصلا بطريقة سرية ببعض الأعضاء المنضوين في هذه المنظمة الخاصة، وذلك في الجهة الغربية الحدودية على أقل تقدير ، من أمثال المقدم بوزيان ، وكديري حسين، والقاضي عكاشة، وهم من رواد الثّوريّة المعروفين في المنطقة. وربما بحكم اتصالاته هذه، وبحكم تحركاته السرية ضمن نشاطات هذه المنظمة تعرض لاعتقالات من طرف الشرطة الاستعمارية إلا أنه في كل مرة كان يطلق سراحه، دون أن تقدم ضده أي تهمة تذكر.
ومن المعلوم؛ أن مثل هذه الاعتقالات البوليسية التي كانت الإدارة الاستعمارية تحرص على القيام بها ضد الوطنيين الناشطين ، إنما كانت من أجل مراقبة وتتبع مختلف نشاطاتهم النضالية، والتي كانت تجري على نطاق واسع ضمن تنظيمات وخلايا “حزب الشعب الجزائري”.
ومن المؤكد؛ أن شهرة هذا الرجل المناضل قد تبلورت في أول الأمر في نطاق قرية صبرة، التي كان اسمها في عهد الاستعمار”توران”5 وإذ كان يستوطنها في الغالبية العظمى أسر وجماعات المعمرين، فهي في ذات الوقت، لم تكن تخلو من أسر جزائرية. بينما ضواحيها القريبة والبعيدة؛ هي عبارة عن مداشير ودواوير مبعثرة عبر مختلف الجهات. وبقدر ما كانت هذه القرية تتميز بالحركة والنشاط، أثناء سوقها الأسبوعي، الذي ينصب في كل يوم خميس، بقدر ما كانت تكتنفها حالة من الرتابة والهدوء، طيلة الأيام الأخرى من الأسبوع، بحيث انتظمت حياة الناس جميعا بنظام هذا السوق. يلتقون في أجوائه في السراء والضراء، يتبادلون البيع والشراء، ويحصل ما يحصل من علاقات واتصالات، ثم في النهاية يفترق الجميع. إنها تظاهرة تجارية اجتماعية وسياسية كذلك بالنسبة للمناضلين في الحركة الوطنية. تعود وتتكرر مظاهرها في كلّ يوم خميس من الأسبوع. فتجيء صاخبة في كل مرة بالأحداث والمستجدات. سواء ما تعلق منها بحياة الأفراد وأسرهم وقضاياهم العامة والخاصة. أو ما يخص قضايا الحركة الوطنية وأحوال النضال السياسي في صفوف “حزب الشعب الجزائري”، وكذا ما يتعلق بدعاوى الإصلاح الاجتماعي والديني في “جمعية العلماء المسلمين”
في سياق كلّ ذلك، كان عقب اللّيل بمعيّة مناضلين آخرين ينشطون جميعا في نشر التوعية بين الناس. التوعية بمأساة الجزائر المستعمرة، وينبهون إلى النظام الاستعماري التسلطي وإلى هيمنة المعمرين، ويدعون إلى التجنيد والتضامن في صفوف “حزب الشعب الجزائري”. وهو الحزب الذي كان أكثر استقطابا وإقناعا للجزائريين، بحكم توجهاته الواضحة في الوطنية، وعدم تردده في المطالبة بالحرية والدعوة إلى الاستقلال.
أعود وأقول؛ بأنه كثيرا ما كان يجري كلّ ذلك النشاط، تحت غطاء العلاقات التجارية من بيع وشراء، وضمن أنشطة الناس عامة في نطاق السوق. الأمر الذي كان يجعل هذا النشاط السياسي المناهض للوجود للاستعماري مموّها ومغيّبا عن مراقبة البوليس الاستعماري.
هكذا أصبح هذا الرجل الريفي الوطني من الوجوه المعروفة والمتفردة بين عامة الناس. فقد دأب كل من يعرفه أو يلتقي به، خاصة في السوق الأسبوعية بمناداته باسم “الشريف”، تعبيرا وتقديرا لنسبه الشريف ، حيث كان من عادة الناس آنذاك التمييز بين الأسر الشريفة من غيرها ، أو ينادونه أحيانا باسمه محمولا على اسم أبيه “محند لحسن”، بهذه الصورة من النطق. وذلك كطريقة للتمييز بين جميع من يحملون اسم “محمد”، وما أكثرهم في ذلك الوقت. خصوصا في المناطق الريفية والبدوية. وهكذا أيضا، كانت صورة شخصيته في أذهان معارفه وأصدقائه. هي صورة الرجل الصنديد المعتز بنفسه اللّبق في علاقاته مع الجميع. في حديثه جدية وإقناع، في شخصيته قوة حضور وجاذبية وتأثير. ولعل ما اتسمت به حياته من خلال تعامله وعلاقاته مع الناس، من شجاعة وصرامة وحسم، سواء في مواقفه في الشدائد، أو في مواقفه في مقتضيات الأفراح والأحزان، لعل كلّ ذلك هو الذي أصبغ عليه هذه الصورة الشعبية وصقل ذاتيته، بحيث أصبح مهيّئا لكي يحتل تلك المكانة القيادية المتميزة، بعد انطلاق الثّورة التحريرية مباشرة. حتى صار اسمه عنوانا لأسطورة من أساطير الثّورة، وشبحا كثيرا ما أثار الرعب في أوساط الجيش الاستعماري. ومن المعروف عن هذا الرجل بأنه كان فارسا، من ضمن الرجال الفرسان في المنطقة الذين يتسابقون بالخيل في المناسبات. كما كان مدربا على استعمال السلاح حتى قبل انضمامه إلى المنظمة الخاصة6، حيث كان يعد من أمهر الصيادين. فبراعته في دقة التصويب كانت تثير الإعجاب. ولا عجب فقد أصبح لهذه المهارة شأنا في المعارك التي خاضها ضد جيش الاستعمار. وما أكثر الوقائع التي كان فيها رفقاؤه المجاهدون شاهدين على حسن مهارته وشدة قتاله حتى أصبحت لديهم قناعة، بل ومن تحصيل الحاصل، بأن عقب اللّيل إذا ما صوّب بندقيته استحال أن تخرج منها طلقة طائشة، أو تذهب هباء دون أن تصيب الهدف.
إنّ الإشادة بصفات هذا الرجل الثوري قد تظل غير مكتملة الدلالات والمعاني، بدون الإشارة إلى خصال ومواقف رجال آخرين، كانت تربطه بهم علاقات وطيدة ومباشرة، فأثّر الواحد منهم في الآخر، أشدّ التأثير. فبعضهم كان من رجال أسرته ودوّاره من أمثال؛ السي أحمد البوزيدي، والسي بن يحيى البوزيدي، والصايم الصايم، والصايم عبد القادر. وبعضهم الآخر من رجال المنطقة، من أمثال؛ كديري حسين، والمقدم بوزيان، والقاضي عكاشة، وحمداوي المأمون. كل هؤلاء كانوا مفعمين بالروح الوطنية الصادقة. يتربصون بالعدوّ الاستعماري، وينتظرون بفارغ الصبر مجيء اليوم المعلوم، وتنطلق الشرارة الأولى للنهوض في وجه الاستعمار. وهو الشعور العام الذين كان سائدا ويعمّ جميع الوطنيين على مستوى الوطن ومن هؤلاء المخلصين الصادقين، أرى لزاما أن أشير إلى بعضهم بصورة مختصرة على سبيل المثال.
السي أحمد البوزيدي
رجل وطني، تكون في علوم الدين بجامعة القيروان بفاس. وحيث أنه يعتبر من أقدم رجال الحركة الوطنية بالجهة، فقد وضعته قيادة الثّورة بالغرب الجزائري فور انطلاق الثّورة التحريرية أول قائد للقسم السادس7. وحين ألقي عليه القبض أواخر عام 1955 من طرف الجيش الاستعماري، تولّى قيادة هذا القسم بعده الشهيد “فراج” المسمى؛ “عبد المؤمن”.8
تولى هذا القائد بعد خروجه من السجن مباشرة، في بداية الاستقلال مسؤولية “جبهة التحرير الوطني” بولاية تلمسان، ولم يمكث في هذا المكان إلاّ بضعة أشهر، حيث قدّم استقالته بعد سوء تفاهم بينه وبين “أعضاء المكتب”، حيث أدى به ذلك إلى اعتزال العمل السياسي بصورة نهائية، لينتقل إلى مدينة بلعباس في جوار جده “سيدي بلعباس البوزيدي”، فزاول منذ ذلك الحين مهنة التعليم إلى أن وافته المنية عام 1974. ومن الضروري أن أوضّح في هذا المقام بأن هذا المجاهد عاش عفيفا طاهرا، فلم يطلب “شهادة العضوية” قط فمات بنيته الثّوريّة الخالصة، في الوقت الذي كان الناس يتهافتون عليها بالصدق تارة، وبالكذب والتزوير تارات أخرى. وإذن لم يتلوث بما تلوّث به المزورون من المجاهدين والزعماء والأبطال (أقصد التلوث بدم الشهداء). فظلت مكانته عالية. وخير دليل على ذلك، فقد حظر جنازته جمع غفير من المجاهدين والمواطنين، جاؤوه من كل مكان، حتى أنّ المجاهد “الحاج بن عله” -والذي كان رهن الإقامة الجبرية بمدينة “عيون الترك”، على إثر الانقلاب العسكري 19 جوان عام 1965 ، اضطر هذا المجاهد القيادي في “جبهة الحرير الوطني” إلى طلب رخصة خاصة لينتقل ويحضر جنازة صديقه في الكفاح بمدينة بلعباس.
الصايم عبد القادر
يدعى “السي عيسى”، نسبه يعود إلى أسرة بوزيدي وهو من الوجوه الوطنية البارزة في صفوف “حزب الشعب الجزائري”. عيّن في مطلع الثّورة التحريرية قائدا للقسم السابع، الذي كان يشتمل على مدينة بلعباس ونواحيها، وبعد استشهاده عام 19599 جاء بعده مجموعة من القادة المجاهدين10. خاض هذا المجاهد غمار عدة معارك ضد الجيش الاستعماري، يعرفها الخاص والعام بناحية القسم السابع.
السي بن يحيى البوزيدي
فقيه شاب، درس في جامعة القيروان بفاس، زاول تعليم القرآن والفقه بالكتاتيب11، وهو يعد من الشهداء الأوائل في المنطقة، حيث استشهد في بداية عام 1955، بعدما اختطفه رجال الدرك الاستعماري، ثم قتلوه رميا بالرصاص على مرأى من جميع الناس. قام هذا الشهيد بدور فعال ومتواصل في نشر الوعي الوطني بين رجال الريف، فلم يتوانى في الدعوة إلى ضرورة مقاومة الاستعمار ولم يتردد قط في نشر فضائل الجهاد، ومن أجل هذا اعتقلته السلطة الاستعمارية وقتلته على الفور، دون أي محاكمة.
الصايم الصايم
المجاهد الصنديد، ينتمي إلى أسرة “بوزيدي” كذلك ومن رجالها البارزين. عرف منذ الأول بإقدامه وحيويته في الثّورة، حيث شارك كعنصر أساسي في تنظيم القسم الخامس، الذي كان يشرف عليه “عقب اللّيل”، وقد تمركز في الأشهر الأخيرة التي سبقت استشهاده، في ناحية “عين الحوت”، قريبا من مدينة تلمسان، بصفته قائدا لمجموعة من المجاهدين. شارك بكلّ شهامة في جملة من المعارك ضد عساكر العدو، ومن ذلك المعركة الشرسة التي استشهد فيها عام 1958. حاصره الجيش الاستعماري بأرض زراعية أثناء تحركه برفقة مجموعة من المجاهدين، قصد الانتقال إلى مكان آخر. حاصرهم العدو بجيش جرّار مدعما بعشرات الدبابات. وحين أيقن هذا القائد بخطورة الموقف أمر جنوده أن يتشتّتوا في كلّ مكان، وأن يحاول كل واحد منهم أن يقتحم صفوف العدو، الذي كان متراصا الواحد في كتف الآخر. في محاولة شاقة للخروج من الحصار. كانت محاولة خطيرة استبسل فيها المجاهدون، ولم يتركوا للعدوّ أيّ فرصة للسيطرة على المعركة، مما دفع جيش العدو إلى التراجع إلى الخلف، لتتولّى بعد ذلك قذائف “النابالم” والدبابات حرق المكان، “ميدان المعركة” بما فيها من بشر وحيوان ونبات، فأدّى ذلك إلى استشهاد حوالي سبعين مجاهدا ومدنيا، ثم قبض على قائدهم “الصايم الصايم” وهو شبه ميت. حيث كان مصابا بحروق بالغة، فربطوه على وجه دبابة، وأخذت بعد ذلك تطوف به في كل مكان، وهم يعرضونه أمام الأهالي المدنيين، وقد انتهى بهم هذا العمل البربري إلى الإجهاز عليه والتنكيل بجثّته. بهذه الصورة إذن استشهد هذا البطل، رفقة جمع من المجاهدين، بعد أن كبّدوا الاستعمار العشرات من القتلى والجرحى.
حمداوي المامون
صديق حميم لـ “عقب اللّيل”، كان كلّ منهما لا يكاد يبتعد عن الآخر، في الفترة التي سبقت اندلاع الثّورة التحريرية، فكان لكل منهما -والحال كذلك- مواقف متشابهة سواء في الرجولة أو الكرم أو فيما يخص معاداة الاستعمار.
كان “المامون” مستقرا بأسرته الكبيرة، المتكونة من بضعة أزواج، وعدد من الأبناء، يزيد عددهم عن الإثنى عشر. كان مستقرا بأرض تسمى “مناخر” بجبال “موطاس”، تحيط بداره الغابة والمرتفعات من كل جهة. ظل يعيش في عزلة تامة على تربية المواشي وتربية النحل. وهو فضلا عن كونه كان رجلا صاحب شخصية فذّة متميزة، فإنّه كان قويّ الجسم، جميل المنظر. تزيّن وجهه لحية مهذّبة شقراء. لعل كل من يراه يخطر بباله وكأنه أمام رجل من العرب القدماء الأشداء، كأولئك الذين جاء ذكرهم أو وصفهم في الشعر العربي القديم.12 ورغم أن هذا الرجل، والذي كانت تربطه علاقة خاصة بـ “عقب اللّيل”، كما قلت سابقا، قد أتته المنية بعد اندلاع الثّورة ببضعة أشهر، فإنّ داره التي كانت قبلة للكرم والضيافة، سرعان ما تحولت بعد ذلك، إلى مقرّ أساسي واستراتيجي للثورة، خاصة وقد جعل منها عقب اللّيل مركزا رئيسا ضمن تنظيمات “القسم الخامس”، فأضحى بحقّ هذا المكان تجمعا للقيادات الثّوريّة ومقرا لها، ويأمّه المجاهدون من كل جهة.
لقد استشهد أبناؤه في معظمهم، وتدمرت داره وخرّبت أرضه وذهبت ممتلكاته جميعا، وهو الرجل الّذي كان يعتبر حينئذ من الميسورين في المنطقة. كل ذلك في سبيل تدعيم الثّورة والتضحية بالغالي والنفيس، بل بالأسرة والأولاد من أجل تحرير الشعب الجزائري.
تلكم هي روابط التضحية والإيثار التي جمعت بين هؤلاء الرجال وتلكم هي صورتها في الإخلاص والتفاني من أجل القضية الوطنية.
1وصلت الأغلبية منهم إلى دوار “الحسينات”وهي أرض في مشارف صبرة من الجهة القبلية. فاستقبلهم الأهالي “الحسينات” بكل حماسة، ثم وزعوهم على مختلف العائلات. وهذا مظهر من أعظم مظاهر التكافل الذي تميز به المجتمع الجزائري أثناء الثّورة التحريرية.
2هؤلاء الرجال ينتمون إلى أسر مختلفة تعود في نسبها جميعا إلى “سيدي بوزيد”، والأسر من أمثال؛بن مالك، بن غليمة، الصايم ، بن عمار، فضلا عن أسرة بوزيدي . وغني عن البيان أن أذكر هنا بأن عدد الشهداء من أسرة بوزيدي بلغ 67 شهيدا ، وهم مجمل شبانها ورجالها آنذاك .
3 Socomat: استقطبت آنذاك الكثير من العمال الجزائريين يعملون في حفرالخط المائي الرابط بين سد “بني بحدل” ومدينة وهران.
L’O.S4
Turenne5
L’O.S6
7 سيأتي ذكر تعيين القادة الأوائل والأقسام في موضوع تنظيم القسم الخامس.
8 من المعلوم؛ أن السي أحمد البوزيدي هو الذي أطلق على الشهيد فراج اسم “عبد المؤمن”.
9استشهد هذا البطل في منطقة آفلو، عام 1959.
10 من أمثال الطيب العربي.
11 كان يقوم بهذه المهمة في نواحي مختلفة مثل بوحلو، سيدي مجاهد تغاليمت.
12 تلك هي صورة الرجل المدعو “المامون”، كما ارتسمت في مخيلتي بعدما شاهدته لأوّل مرة، وعمري لم يتعدّ تسع سنوات، حينما كنت مرافقا لوالدي “عقب اللّيل”، في إحدى زياراته له بأرض “موطاس” في الأيام القليلة التي سبقن اندلاع الثّورة التحريرية.
الالتحاق بالثّورة التّحريريّة وقيادة القسم الخامس
من المعروف بأنّ عقب اللّيل ظلّ خلال السنوات التي سبقت اندلاع الثّورة التحريرية من أشد المؤمنين والمرتبطين بالزعامة الوطنية لشخصية مصالي الحاج الفذّة، طيلة قيادته للحركة الوطنية. فقد ارتبط بشخصيته الوطنية، شأنه في ذلك شأن أغلبية الجزائريين. وقد وجدوا في مواقفه تجسيدا للروح الوطنية، واقتنعوا بتوجّهاته السياسية الحاسمة في مناهضته للاستعمار. حيث تجلى ذلك في مطالبته بالحرية والاستقلال للجزائر العربية المسلمة، متفرّدا في ذلك ومتفوقا على جميع الحركات والأحزاب. سواء منها الاندماجية أو الإصلاحية على حدّ سواء.1 وقد استمر عقب اللّيل على هذا الشعور الحميمي الذي كان يشدّه إلى زعيم الحركة الوطنية، كما كانت ممثلة في حزب الشعب الجزائري، ثم حركة انتصار الحريات لديمقراطية، دون تردد أو تقاعس، حتى بعد أن ظهرت تلك الصراعات والانقسامات داخل تنظيمات اتحاد الحريات الديمقراطية بشكلها الواضح في مؤتمر أبريل عام 1953. حيث أفرزت مناقشات المؤتمر خلافات عميقة وحادة داخل “اللجنة المركزية”، سواء في المواضيع الإيديولوجية، أو في ما كان له علاقة بطريقة التنظيم وأسلوب تسيير الحزب. وبطبيعة الحال؛ فقد تفاقم هذا الصراع وهذا الخلاف التي مازالت أسراره الحقيقية غائبة أو مغيّبة عن مؤرخي الحركة الوطنية. ظلّ “عقب اللّيل” مثله مثل العديد من رجال ومناضلي حزب “اتحاد الحريات الديمقراطية”، ظلّ يترقب بينما الأحداث داخل هذا الحزب ما فتئت تتطور وتتحول، دون أن يتأثر أو ينفعل من جراء الإشاعات والاتهامات التي لم تتوانى جماعة من المركزيين ومن ضمنهم أفراد من اليساريين والأممية الشيوعية، من نشرها وترويجها على مستوى عامة المناضلين، ضد شخصية زعيم الحركة الوطنية2، ولم تلبث هذه الخلافات والادعاءات حتى أصبحت تثار كمبرر لتزكية نعرات خاصة بالذهنية الجهوية، كما أصبحت مصدرا لتأجج الجدل والمناقشات الجوفاء بين المناضلين.
وإذن لم يطرأ على موقف هذا الرجل المناضل، بسبب ذلك، أيّ تغيير واضح، رغم مشاركته في الاجتماع الهام الذي تم يوم 15 أكتوبر عام 1954 بدار المجاهد ورجل الحركة الوطني البارز؛ “كديري حسين”. وقد انعقد هذا الاجتماع بقرية “الخميس”3 تحت إشراف الشهيد؛ “العربي بن مهيدي” الذي جاء حاملا رسالة من “أحمد بن بلة”، والذي يوصي فيها بضرورة العناية بشخصية هذا البطل “العربي بن مهيدي”، والالتفاف حوله لتدارس كيفية التحضير لانطلاق الثّورة التحريرية في الجهة الغربية. لقد حضر في هذا اللقاء رجال وطنيون، منهم من كان منخرطا في المنظمة الخاصة 4 لحزب الشعب، ومنهم من كان ينشط في الحركة الوطنية بصورة أو بأخرى. وهؤلاء الرجال جاؤوا بصفتهم ممثلين لجهات مختلفة بالمنطقة، وهم على التولي: كديري حسين ،مختاري عبد القادر، بوقويرن رمضان، حنصلي ميسوم، مستغانمي أحمد، بلخير بن صدّيق، شعبان الكرد، بوزيدي محمد “عقب اللّيل”، بوزيدي أحمد “السي أحمد”، الصايم عبد القادر “السي عيسى”.
وقد كان ما كان في هذا الاجتماع المحلي، الذي أشرف عليه الشهيد “العربي بن مهيدي”، ولم تمر إلاّ بضعة أيام حتى انطلقت الثّورة التحريرية مدوية على مستوى الوطن كما خططت لها القيادة الوطنية المتمثلة في “اللجنة الوطنية الثّوريّة للوحدة والعمل”، وهي اللجنة التي تبلورت وتحولت إلى اسم “جبهة التحرير الوطني”، مباشرة على إثر انطلاق الثّورة المسلحة في أول نوفمبر عام 1954. حيث كانت بدايتها تتمثل في القيام بأعمال هجومية وتخريبية، ضد العشرات من مراكز الاستعمار، على مستوى الجهات المختلفة في البلاد. وبطبيعة الحال، فقد قام المجاهدون الأوائل في الجهة الغربية الحدودية في نفس هذا اليوم بحرق وتخريب غابة “الفرنان” التي كانت تستغل لإنتاج الخشب بمنطقة “أحفير”5، وهي مرتفعات تقع جنوب قرية “صبرة” وتتوسط بين جبال تلمسان وجبال “موطاس” . لقد مرّ على هذا الحدث الثوري الوطني البالغ الأهمية بضعة أيام. بينما ظلّ “عقب اللّيل” ينتظر ويراقب، شأنه في ذلك، كالعديد من رجال المنظمة الخاصة 6 الذين كانوا عمليا ومنذ بضعة سنوات يهيئون لانطلاق ثورة مسلحة ضد الاستعمار. فلم يكن من السهل على بعضهم –كما يبدو- التخلي عن النظام الثوري القديم والانضمام إلى نظام ثوري جديد عارم وشامل، دون ما تردد وتأكد من الأمر على المستوى الفعلي والواقعي.
في خلال هذه الفترة قدم إلى دشرة “تمكسالت” الشهيد “العربي بن مهيدي” المدعو آنذاك “الصّادق”، وهو المسؤول الأول في قيادة الثّورة بالجهة الغربية من البلاد، بينما كان “الحاج بن علة” نائبه الأول في هذه المهمة، و”عبد الحفيظ بوصوف” نائبه الثاني. أعود وأقول؛ فقد قدم إلى هذه الدشرة وكان برفقته “عبد الحفيظ بوصوف” وجماعة هامة من رواد الثّورة بالمنطقة، من أمثال؛ السي أحمد البوزيدي، لمقدم بوزيان، الصايم عبد القادر، الوهراني أحمد، بن حليلم بوشارب، الصايم الصايم، بوزيدي بلعباس، وغيرهم من المجاهدين، حيث تجمعوا داخل “كوخ” يملكه مناضل يدعى ملاي المهدي البوزيدي، بأرض تسمى العيرساة. وكان الهدف الأول والأخير من وراء هذا اللقاء، هو إقناع “عقب اللّيل” بضرورة الالتحاق بالنظام الثوري الجديد، وهو “جبهة التحرير الوطني”. وقد استمر هذا اللقاء عدة ساعات متتالية. جماعة موجودة بالداخل، وهم من قيادة الثّورة، وجماعة تنتظر خارجا وهم من عامة المجاهدين والمناضلين. وفي هذه الأثناء كثيرا ما كان يحتدم النقاش وترتفع الأصوات وتتعالى، فيشتد الجدل فيوحي ذلك – بالنسبة للذين ينتظرون خارج الكوخ- بتفاقم الخلافات وتباين في وجهات النظر، وكثيرا ما كانت تجيء لحظات سكون وصمت، فتوحي بقرب التفاهم وحصول الاتفاق. وما أحسب أنّ الّذي كان يثير الخلاف والنزاع بين هؤلاء المجاهدين في هذه الظروف سوى تلك المواضيع ذات الصلة بواقع الثّورة ومستقبلها، ثم تداعيتها وترتيب تنظيماتها، وعلاقة كل ذلك بالوضع الجديد الذي آلت إليه الحركة الوطنية وبزعيمها “مصالي الحاج”.
انتهى الاجتماع في نهاية المطاف، وخرج الجميع وهم مستبشرون خيرا وعلامات التفاهم والتوافق في الرأي والمواقف بادية على الوجوه. وبعد ذلك مباشرة فقد تم الإعلان في عين المكان أمام الجميع تعيين “عقب اللّيل” من طرف قيادة الثّورة بالجهة الغربية قائدا “للقسم الخامس”. وقد تقبل المجاهدون والمناضلون الحاضرون هذا الحدث بابتهاج وترحاب، لما كان لهذا الرجل من مكانة في نفوسهم ولشخصيته النضالية التي يعرفها الجميع. رغم ذلك فلا يفوتني أن أشير في هذا الصدد، بأن أحد المجاهدين7 الحاضرين في عملية التعيين هذه، لم يتردد في التعليق على ذلك قائلا؛ وهو يوجه كلامه لجميع الحاضرين من القيادة:«كيف تعينون بهذه السرعة “محند لحسن”8 مسؤولا علينا جميعا، وهو الذي كان من فترة قصيرة معارضا لكم، وقد أبدى أمامكم جميعا تشددا وصلابة في موقفه. بل ولم يلتحق “بجبهة التحرير الوطني” إلا بعد جهد جهيد»، ومهما كان الأمر؛ فإن هذا القرار ولا شك جاء نابعا من معرفة هؤلاء القادة بشخصية الرجل الثّوريّة، ودرايتهم المؤكدة بمدى قدراته وإمكانياته، سواء في إقناع الناس من أجل الإنضمام إلى الثّورة، أو فيما يتعلق بشجاعته واستعداده لعظيم التضحية. كما كان تقديرهم للرجل نابع من وعيهم التام بأنّهم يتعاملون مع عضو نشط في المنظمة السرية الخاصة9 وهي المنظمة التي كان أعضاؤها على قدر من التدريب والتهيئة لخوض غمار الحرب، ومواجهة أهوال ومصاعب الثّورة المسلحة، حتى قبل ميلاد “جبهة التحرير الوطني”. وهو الأمر الذي لم يكن يعلم به أحد من المجاهدين الحاضرين، ومنهم بطبيعة الحال المجاهد الذي أبدى ذلك الاعتراض وتلك الملاحظة. بهذه الكيفية وانطلاقا من هذه الاعتبارات تم تعيين عقب اللّيل، بصورة رسمية قائدا “للقسم الخامس”، وذلك ضمن أول تنظيم ثوري شامل، تكون بعد انطلاق الثّورة التحريرية. هذا التنظيم الذي عمد إلى تقسيم التراب الوطني إلى ثلاثة مناطق كبرى ، وكل منطقة تنقسم بدورها إلى مجموعة من الأقسام10، قد تزيد أو تنقص حسب ظروف وإمكانيات كل جهة. ومن المفيد الإشارة إلى أنّ هذا التنظيم الأول الذي طبق في بداية الثّورة التحريرية واستمر العمل بمقتضاه إلى حين تطبيق نظام “الولايات” في بداية عام 1957 ، قد تميز بشكل أساسي بمبدأ اللامركزية في التنظيم والتسيير، وكذا في مباشرة الأنشطة والأعمال الثّوريّة، من منطلق المبادأة والمبادرة، حسب ما تمليه وتفرضه المعطيات والظروف المحلية في كل جهة، وفي كل قسم. الأمر الذي جعل من رؤساء الأقسام في هذه الفترة أبطالا وقادة ميدانيين حقيقيين يتصدرون المواقف الصعبة، وأحيانا المعقدة بحكم مواجهتهم بصورة مباشرة الظروف الصعبة، التي كانت قائمة آنذاك في تنظيم وتسيير وقائع الثّورة. ثم في ضرورة تجسيدها وتأكيدها في الميدان ضد الجيش الاستعماري، في كل قسم من أقسام المناطق على مستوى الوطن. ويمكن القول إذن، وبدون تردد أنّ هؤلاء، أي قادة الأقسام “الروّاد”، ليعود إليهم الفضل الأول دون منازع، في هذه الفترة الحرجة من حياة الثّورة التحريرية، في جعلها واقعا ملموسا، وظاهرة عامة وشاملة طالت أرجاء الوطن.
في هذه المرحلة الصعبة والحرجة بالذات، تألّق “عقب اللّيل” في الميدان الثوري. بل كان بحقّ سيد من سادة هذا الميدان. فرسم شخصيته الثّوريّة بكل جدارة، فذاع صيته كمحارب صنديد. فصار رمزا يضرب به المثل في البطولة والتفاني والإخلاص. وبقدر ما كان معروفا عن هذا الرجل من ثبات وحزم وصفاء في النّية والقصد، بقدر ما جسّد كلّ ذلك وأظهره ومنذ الوهلة الأولى، في مدى قدرته وموهبته الفائقة في تنظيم “القسم الخامس”، الذي تولاّه في فترة وجيزة لم تتعد بضعة أشهر. بحيث أصبح هذا القسم يتوفر على هيكلة قاعدية قوية، سواء في المجال العسكري أو في مجال التنظيمات المدنية. أو فيما يتعلق بميادين الاتصال والتموين. الأمر الذي هيّأ وبشكل فعال للإنطلاق في العمل الثوري عبر الجهات المختلفة. فكانت تلك الأعمال الثّوريّة حاسمة ومؤثرة، وتنمّ عن شجاعة فائقة، نال من خلالها “عقب اللّيل” ورفاقه المجاهدين شهرة واسعة في نطاق المنطقة الغربية كلّها. وذلك على الرغم من المشاكل الأساسية والصعوبات الحقيقية المحرجة، التي كانت تواجه الثّورة الجزائرية في هذه الفترة بالذات، وتتمثل على الخصوص في مشكلة التنظيم العسكري، ومشكلة التسليح والتموين. وهي ذات المشاكل التي قام “عقب اللّيل” على مستوى “القسم الخامس” بتجاوزها والتغلب عليها من خلال هجوماته المتكررة على مراكز الاستعمار، كما سبق وأن ذكرت.
1 كانت الحركات والأحزاب السياسية في ظل الحركة الوطنية تنقسم من حيث توجهاتها ومطالبها – إلى فئة كانت تطمح إلى الإندماج في المجتمع الفرنسي وفئة أخرى كانت توجّهاتها مرتكزة على الإصلاح الاجتماعي والديني. و من ضمن الفئة الأولى؛ الحزب الشيوعي الجزائري –المنتخبين المسلمين- اتحاد النواب – حزب البيان. ومن ضمن الفئة الثانية؛ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، هذا في الوقت الذي كان فيه حزب الشعب الجزائري يطالب بالاستقلال والحرية.
2 زعيم الحركة الوطنية هو “مصالي الحاج” الذي كان يقود حركة انتصار الحريات الديمقراطية في ذلك الوقت.
3الخميس : هي قرية بني سنوس، تقع غرب مدينة تلمسان.
L’O.S4
5 ليس من المستبعد أن تكون هذه العملية وتحديد مكانها قد تم تعيينها في اللقاء الذي جمع تلك النخبة من المجاهدين في 15 أكتوبر 1954 بقرية بني سنوس.
L’O.S6
7احمد الوهراني، الذي أصبح النائب العسكري في قيادة القسم الخامس
8 محند لحسن “عقب اللّيل”
L’O.S9
Les secteurs10
تنظيم الأقسام
من المعلوم أنّ الجهة الغربية، على غرار الجهات الأخرى من الجزائر، قد تم تقسيمها بعد انطلاق الثّورة التحريرية، في إطار أول تنظيم ثوري شامل إلى مجموعة من الأقسام1، انطلاقا من مختلف الجهات الحدودية الغربية لتتوجه صوب الشرق. بحيث كان كلّ قسم يغطّي مساحة جغرافية محددة وواضحة المعالم من جهة الشمال والجنوب. بينما مجالها ظلّ غير محدد نحو الشرق بصورة عامة. وهكذا فقد تكونت في نطاق المنطقة الغربية انطلاقا من هذا التخطيط الجغرافي الاستراتيجي الأول سبعة أقسام .
القسم الأول
وكان يمتد من مرسى بن مهيدي، الناحية الساحلية نحو وادي المويلح جنوبا، بالإضافة إلى عرش المعازيز، المنطقة التي تشمل شمال حمام بوغرارة، وكان يقوده “الحنصلي”.
القسم الثاني
يضم ناحية ندرومة بأعراشها المختلفة: جبالة، سواحلية، بني مسهل، بني عابد، بني خلاد. كان يقوده الشهيد المسمى “بلحسن”. وقد خلفه بعد استشهاده: السي عبد القادر شنوف.
القسم الثالث
ويتكون من أعراش بني ورسوس، ولهاصة، بني صاف، سيدي الصافي إلى المالح ووهران ومستغانم شرقا. كان يقوده الشهيد؛ عرفاوي محمد الصالح، المدعو “بوسيف”. ومن أشهر القادة الذين تعايشوا في هذا القسم؛ الحاج بن علّة والعقيد عثمان.
القسم الرابع
بداية حدود هذا القسم وادي المويلح في اتجاه مشرية جنوبا. وهو يضم عرش بني واسين بما في ذلك مدينة مغنية ثم عرش بني بوسعيد ومنطقة الخميس بالإضافة إلى أولاد نهار. وقد تولّى قيادة هذا القسم؛ الشهيد مطعيش عبد القادر المدعو “جابر”.
القسم الخامس
ويبدأ من قرية تافنة غربا ويتجه نحو الشرق. وصلت علاقاته التنظيمية ومناضليه مناطق تيارت، وهو يشمل سيدي مجاهد إلى دوار بوسدرة، وجهة الكاف، ثم يتجه من هذه الجهة صوب الشرق، فيشتمل جبال موطاس وتلمسان نحو ولاد ميمون. أما من ناحية الشمال فيشمل مشارف بوغرارة الجنوبية، ثم منطقة ولاد رياح والرمشي وبن سكران إلى قرية “عقب اللّيل”، بناحية عين تيموشنت الجنوبية. أما المنطقة الوسطى لهذا القسم، فهي تضم نواحي صبرة وزلبون وبني مستار وبني ورنيد. بينما ظلت مدينة تلمسان هي المنطقة الاستراتيجية لهذا القسم، وكان قائده إلى عام 1957 الشهيد؛ بوزيدي محمد المدعو “المختار” و”عقب اللّيل”
القسم السادس
يشمل عرش بني بحدل في اتجاه بني هديل، حيث كان مركزه الرئيسي عين غرابة، ثم يتجه نحو الشرق بين جبال تلمسان الجنوبية وولاد ورياش إلى مناطق ولاد ميمون نحو سيدي بلعباس. وقد تولى قيادة هذا القسم؛ بوزيدي أحمد، المعروف باسم “السي أحمد”، وحين ألقي عليه القبض من طرف الجيش الاستعماري عام 1955 قام مكانه مساعده المدعو؛ عبد المؤمن وهو الشهيد “فراج”.
القسم السابع
ويشمل بصورة عامة نواحي سيدي بلعباس في جميع الاتجاهات ويصل إلى مشارف مدينة سعيدة. وكان قائد هذا القسم الشهيد؛ الصايم عبد القادر المدعو السي عيسى. وقد تولى في هذه الجهة القيادة فيما بعد، الطيبي العربي وغيره من القادة الآخرين.
هذه إذن الطريقة التي تم من خلالها توزيع الأقسام عبر الجهة الغربية من الوطن في أوائل الثّورة التحريرية. وتلكم هي أسماء القادة من المجاهدين الأوائل والرواد الذين انطلقوا بالثّورة التحريرية، في هذه الناحية، وقاموا بتجسيد وقائعها في الميدان، في ظروف بالغة الصعوبة. وإنه لمن الملفت للانتباه، أن يكون ثلاثة من ضمن هؤلاء القادة وهم؛ السي أحمد ، السي عيسى ، عقب اللّيل ، و قد جاؤوا من نفس الدوار، بل وينتمون إلى نفس الأسرة ونفس العائلة.2
Les secteurs1
2 المقصود بذلك هي أسرة بوزيدي.
تنظيم القسم الخامس وانطلاق العمليّات الثّوريّة
يمكن القول؛ بأن “القسم الخامس” الّّذي تولى قيادته عقب اللّيل قد تحول في ظرف وجيز إلى ميدان للعمليات الثّوريّة المختلفة، ضد الجيش الاستعماري، وذلك بعدما تم إنشاء وتكوين كل الهياكل القاعدية للقسم، في الجوانب العسكرية والمدنية. بما في ذلك توفير الوسائل الضرورية للأعمال الثّوريّة، بحيث أفضى هذا الجهد المتواصل إلى وضع وتكوين ثمانية مجموعات من جيش التحرير – في مرحلة أولى- كانت كل مجموعة تضم من 35 إلى 40 مجاهد.وقد وضع على رأس هذا التنظيم نائب رئيس القسم العسكري، وهو المجاهد: الوهراني أحمد، المدعو “السي لخضر”. وفي نفس الوقت، فقد تكوّن التنظيم المدني الذي أصبح يشتمل على عشرات الأفواج و الخلايا، بالإضافة إلى جماعات “المهاجرين والمسبلين”1. وقد تولى مسؤولية هذا التنظيم نائب رئيس القسم المدني المجاهد؛ سليماني مداني. ثم تكون نظام الأخبار والاتصالات، وتولى مسؤوليته الشهيد؛ بن عبد الرحمن العيد، المدعو “بريكسي”2. وبالإضافة إلى التنظيمات السابقة الذكر، فقد تكون في مدينة تلمسان، تحت إشراف “القسم الخامس” النظام الفدائي، الذي ما فتئ يتوسع بطريقة فعالة، فأصبح في وقت قصير يضم عشرات الخلايا التي أخذت تزداد يوما بعد يوم.
الملاحظ في هذا الصدد، أنّ تنظيمات “القسم الخامس” بقيادة “عقب اللّيل” لم تقتصر على وضع الهياكل التي كانت مقررة في نظام الثّورة في هذه الفترة. بل تعدى ذلك، حيث تم إنشاء بطريقة جريئة ومتميزة ، مقارنة بالجهات الأخرى من الوطن، فرقتين من المجاهدين، إحداهما خاصة برجال “الدرك”. مهمتهم التنظيم والتنسيق بين الجانب العسكري والحياة المدنية. وهو تنظيم جاء مقلدا لنظام الدرك الاستعماري. وثانيهما فرقة خاصة “بالصاعقة”، ظلت تتكون من بضعة مجاهدين متفرّدين في قدراتهم القتالية، وفي الروح الثّوريّة الباسلة. حيث كان كل فرد منهم تحذوه من خصال الشجاعة ما لا يمكن وصفه. وعلى العموم فقد كانوا جميعا يشكلون الفرقة الخاصة المصاحبة بصورة تكاد أن تكون دائمة، لـعقب اللّيل حيث كان بينهم ارتباطا وثيقا. كما كان المجاهدون عامة كثيرا ما يعتمدون عليهم في القيام بالمهمات الصعبة، أو الخطيرة. وما أكثر المهمات الثّوريّة في تلك الظروف، التي كانت تستوجب وتتطلب هذا المستوى من الأداء الثوري. ومن بين هؤلاء الرجال البواسل أذكر؛ الشهيد معروف عبد الرزاق، والشهيد بختي عبد الرزاق، والشهيد الحبيب، المدعو “عبد الحميد”، والشهيد راشدي أحمد المدعو؛ “أحمد الحاج”، والمجاهد بن دحمان محمد، والمجاهد بلغربي الوهراني. كما أصبح “القسم الخامس” بالإضافة إلى كل ذلك، يتوفر على مراكز رئيسية، أو مواقع استراتيجية معينة غالبا ما كانت ملتقى لقيادات المنقطة الغربية كلها. بالإضافة إلى كونها استعملت كمواقع لتمركز المجاهدين، إذ كانوا يفدون إليها من كل حدب وصوب.
مركز موطاس
وقد أنشئ بداية في دار “المامون” الكائنة بمنطقة تتميز بالمرتفعات وكثافة الغابة، وهي وعرة المسالك مما جعلها نسبيا معزولة عن سيطرة الجيش الاستعماري. كان لهذا المركز أهمية بالغة، حيث أضحى قبلة لجميع الثوار والمجاهدين، ومقرّا لاجتماع والتقاء القيادات الثّوريّة. وقد ظل على هذا الحال من الأهمية إلى أن قام الجيش الاستعماري بحرق غابته الكثيفة عام 1958.
مركز زكدونة
وهي أرض قاحلة طينية معزولة تكاد أن تكون خالية من السكان. تقع شمال قرية صبرة وتمتد إلى مشارف حمام بوغرارة. تتخللها وتتقاطع فيها مجموعة من الشعاب العميقة، التي كانت تعتبر بمثابة مخابئ طبيعية للمجاهدين. وهكذا كان الأمر بالنسبة لبعض مساكنها الريفية المعزولة عن بعضها البعض، والمبعثرة هنا وهناك. حيث كانت مأوى للمجاهدين، وينسحبون إليها من المناطق الجبلية، كلما اقتضت الضرورة إلى ذلك.3
مركز واسار
وهو دشرة صغيرة تضم بضعة مساكن ريفية متجمعة تقع بين صبرة و مغنية، يمر بمحاذاتها الطريق الرابط بين تلمسان والحدود المغربية، وهو الطريق الرئيسي آنذاك الذي كان يربط مدن الغرب الجزائري في اتجاه المغرب. لقد ظل هذا “الموقع”، رغم محاذاته بشكل مباشر لهذا الطريق، الذي كان يعج يوميا بدوريات وقوافل الجيش الفرنسي، ظل رغم كل ذلك، مكانا “مموّها” كثيرا ما كانت تلجأ إليه القيادات الثّوريّة وكافة المجاهدين، حيث كان بمثابة نقطة عبور من المناطق الجبلية نحو الشمال ثم العكس.
ويمكن القول؛ بأن هذا المركز لينطبق عليه القول العربي المأثور«توضيح الواضحات من أعوص المشكلات»، إذ ما كان ليخطر على بال جيش العدو واستخباراته، بأن في هذا المكان الواضح للجميع مقرا لقيادة “عقب اللّيل” ولجميع المجاهدين. يتوافدون إليه من حين لآخر. ولا أبالغ إذا قلت بهذه المناسبة، لطالما مرت بهذا المكان قوافل جيش الاستعمار، بل وتوقفت عنده و”عقب اللّيل”، والذين كانوا يبحثون عنه في كل مكان وبكل الوسائل، متواجد فيه، وليس ببعيد عن أعينهم إلا مسافة أمتار.
ولعلّه من الضروري في هذا المقام، أن أشير إلى أنّ هذه المراكز الرئيسة ضمن تنظيمات “القسم الخامس”، كثيرا ما كانت تقصدها مختلف الوجوه من قيادات الثّورة التحريرية، خاصة خلال الفترة 1955-1957، ومن أبرز هذه الوجوه، بطيعة الحال: الشهيد؛ العربي بن مهيدي، الذي كان يعرف هذه الأماكن معرفة مباشرة. كما أنه من الضروري كذلك الإشارة من جانب آخر، بأن هذه المراكز التي عمد “عقب اللّيل” إلى تأسيسها، لم تقتصر فقط على الحدود المفترضة للقسم الخامس. بل كان إلى جانب ذلك صاحب المبادرة في إنشاء المراكز الأولى في الشريط الحدودي، ثم داخل التراب المغربي. ومن ذلك على سبيل المثال؛ المركز العام للثورة التحريرية، الذي أنشئ بمزرعة أحد المناضلين المغاربة، ويدعى “الميلود ولد القايد”. هذا الرجل الذي انضم إلى الثّورة بفضل مجهودات “عقب اللّيل” واضعا تحت تصرفاتها كل ما كان يملكه من وسائل مادية وبشرية، ولم يبخل بأي شيء من أجل دعم الثّورة والمجاهدين. وهكذا أصبح هذا المركز الذي بات يعرف باسم؛ دار الميلود ولد القايد4 يعجّ بالمجاهدين للاستشفاء ومعالجة الجرحى من جهة، ولتنظيم وتفعيل عمليات الاتصال والتموين من جهة أخرى. حيث استعمل “عقب اللّيل” هذا الموقع لتجميع مختلف الوسائل الثّوريّة، من سلاح وذخيرة وألبسة ليقوم بإدخالها إلى التراب الجزائري حين تسمح الظروف بذلك.
والملاحظ بأن هذا المركز، بعد استشهاد “عقب اللّيل” بدأ يفقد حيويته ونشاطه الثوري المعهود شيئا فشيئا حتى تلاشت أهميته تماما، وذلك بعد أن قامت قيادة “جماعة وجدة” بتضييق الخناق على هذا الرجل المناضل المغربي ومحاصرته، حتى اضطر إلى التخلي عن مساعدة الثّورة والإنشغال بدلا من ذلك بالعمل التجاري. وما ذلك إلا لكونهم كانوا على معرفة جيدة بطبيعة العلاقة الثّوريّة التي كانت تربطه بـ”عقب اللّيل” بالإضافة إلى اطلاعه على أسرار اغتيال هذا القائد.
لم يتوقف النشاط الثوري لهذا القائد المقدام عند هذا الحد، بل قام بتعيين مركزين هامين للثورة داخل مدينة وجدة المغربية. الأول؛ بدار خليل محمد وإخوانه. وهذه الأسرة من مدينة تلمسان، استوطنت مدينة وجدة قبل اندلاع الثّورة التحريرية. كان هذا المناضل (خليل محمد) يمارس مهنة الخياطة، ممّا جعله في أحيان كثيرة، يقوم بتزويد “عقب اللّيل” باللباس العسكري. وبالإضافة إلى ذلك، فقد استعملت هذه الدار، بطريقة سرية لاستقبال الكثير من رجال الثّورة المجروحين أو المرضى التابعين لتنظيمات “القسم الخامس”. ناهيك عن المساعدات الجمة التي قدمتها هذه الأسرة “خليل” إلى الكثير من المهاجرين الذين جاءوا هاربين من ويلات الحرب وبطش الاستعمار.
أما المركز الثاني؛ فقد كان بدار “عبد الرحمن بن خديم”. وهو رجل مناضل من ولاد سيدي الشيخ. تكونت بينه وبين “عقب اللّيل” علاقة خاصة وصداقة قوية. الأمر الذي جعل من داره – بسبب ذلك- موقعا لمختلف الاتصالات والخدمات الثّوريّة. ومن ذلك التقاء القيادات الثّوريّة، وعقد الاجتماعات السرية.
والجدير بالذكر، فإنّ “القسم الخامس” بحكم توسعه في التنظيم الثوري من جهة، وبحكم تصدره في كل ما له علاقة بالعمل الثوري ومقتضياته من جهة ثانية، فقد استقطب نتيجة لكل ذلك عناصر المجاهدين والمناضلين، من مختلف الجهات والمناطق. وقد تولى فيه من عام 1955 إلى1957 نفر من المجاهدين مسؤوليات قيادية مختلفة. من ذلك قيادة الفرق والمجموعات العسكرية. وكانوا جميعهم من خيرة الرجال، ومن الأبطال البواسل. لكل واحد منهم قصص وبطولات ميدانية، أعجز عن إعطائها ما يليق بها من عناية في هذا المقام. ويكفي تعبيرا عن مكانة هؤلاء المجاهدين القادة، أن أشير إلى الحقيقة التي مؤداها، بأن أغلبيتهم الساحقة قد سقطوا في ميدان الشرف. الشيء الذي يفسّر كثرتهم بالقياس إلى الفترة الزمنية القصيرة التي تولوا فيها المسؤوليات. حيث كان من الطبيعي انه كلما سقط قائد في ميدان الشرف. إلاّ وجاء مجاهد آخر ليعوضه في مهمته. ولا عجب في ذلك، فقد كانوا يقودون ويتصدرون المجاهدين في كل معركة، وأثناء أي عملية ثورية. وفي هذا كله كان “عقب اللّيل”، بالنسبة إليهم جميعا القدوة والمثال الذي يحتذى به. وأذكر من هؤلاء القادة الذين تولوا مسؤولية فرق المجاهدين داخل “القسم الخامس”، ضمن قيادة “عقب اللّيل”: الشهيد هداجي البشير، الشهيد بن عبد الرحمن محمد (بريكسي)، الشهيد معروف محمد (محمد موسى)، الشهيد بن عزوز محمد، الشهيد بوزيدي الحبيب (عبد الحميد)، الشهيد عوف منصور، الشهيد بوزيان لحسن، الشهيد بوعزة الزيتوني، الشهيد بن ميلود عبد القادر، الشهيد الصايم الصايم، الشهيد السي رابح (بختي)، المجاهد نقادي بن زيان، المجاهد سحنون محمد (عنتر). وقد انضم إلى هذه الكوكبة من الأبطال ثلاثة من المجاهدين ؛ وهم: عرباوي عبد الله، وبن ميلود، وإينال جعفر، جاءوا من القسم الأول والثاني، وهم جميعا هربوا من الجيش الفرنسي. وبهذه المناسبة (انضمام هؤلاء المجاهدين الثلاثة إلى القسم الخامس) فقد جمع “عقب اللّيل” فرق المجاهدين المختلفة، في شهر جوان 1956، بمنطقة تدعى “عين البان”، وهي مجاورة لجبال “موطاس”، وقام بتقديمهم إلى المجاهدين، بعد الإشادة بخصالهم ومكانتهم الثّوريّة. ثم قام في نفس هذا التجمع بتعيين المجاهد؛ عرباوي عبد الله5 قائدا لفصيلة من المجاهدين، وأطلق عليه اسم “أحمد”، وهو الذي أصبح يعرف فيما بعد باسم “نهرو”. وغنيّ عن البيان، فإنّ هذا البطل قد اشتهر فيما بعد بعملياته المتكررة ضد جيش الاستعمار، ومن أشهر هذه العمليّات وأكثرها جرأة ، عملية الهجوم على ثكنة العدو بسيدي العبدلي عام 1958 حيث قام بالتخطيط لها وقادها مع بطل مغوار آخر، وهو الشهيد “الزيتوني” وقد أسفرت هذه العملية عل أسر حوالي 23 من المجندين الفرنسيين كانوا يؤدون الخدمة العسكرية6، واغتنام كمية عظيمة من الأسلحة والعتاد الحربي بالإضافة إلى قتل عشرات العساكر المحترفين داخل الثكنة.
ليس هناك شك إذن، بأن التنظيمات الثّوريّة والهياكل العسكرية والمدنية بالإضافة إلى المراكز المخلفة، التي وضعها “عقب اللّيل” في نطاق “القسم الخامس” وخارجه، قد بلغت من الأهمية والفاعلية بحيث مكنت المجاهدين7 من مختلف الوسائل الحربية والتنظيمية. وهذا ما جعلهم سادة العمليّات الثّوريّة. كما جعل منه رائدا من رواد الثّورة في ساحة القتال. مما عزز مكانته وزاد في شهرته في أوساط الثّورة وبين عامة المجاهدين.
1 جماعات المهاجرين والمسبّلين: هم العناصر المدنية أو “المناضلون” المرافقون للمجاهدين ليتم إعدادهم وتدريبهم ليلتحقوا بعد ذلك بصفوف المجاهدين.
2أطلق “عقب اللّيل” على هذا المجاهد الذي أصله من الريف اسم “بريكسي” نسبة إلى أحد الأسر الحضرية القاطنة في مدينة تلمسان، وغرضه من ذلك –كما وضّح الأمر لرفاقه المجاهدين- هو إفهام الشرطة الاستعمارية بأن رجال الثّورة ليسوا فقط كما يتوهمون من البادية والريف، أين المعاناة والفقر، بل هم كذلك من سكان المدن و الأسر الميسورة. فالموضوع يتعلق بثورة تحريرية شاملة وعامة.
3 في هذه الأرض المعزولة “زكدونة” الخالية من السكان، تم بناء مسكن لأسرة “عقب اللّيل” بعدما قام الاستعمار بتدمير دشرة “تيمكسالت”أين كان مقرهم الأصلي، وذلك في نهاية عام 1955. ولم تمر بضعة أشهر على ذلك حتى اكتشف الجيش الاستعماري هذا المسكن الجديد عن طريق “البياعين”. فقام بتفجيره وبصورة كاملة بجميع محتوياته بعد أن أخرجوا زوجة “عقب اللّيل” وأطفاله وأرغموهم على الابتعاد ومغادرة المكان.
4 لا يبعد مركز دار الميلود ولد القايدعلى الشريط الحدودي إلا مسافة قصيرة. يقع على الجهة الجنوبية من بداية الطريق الرابط بين الحدود الجزائرية – المغربية.
5 عرباوي عبد الله نهرو: تولى هذا المجاهد البطل، بعد الاستقلال خلال الفترة1973-1978 وزارة المياه والري، وقد تعرض لمضايقات شديدة بعد عزله من الوزارة، لدرجة اضطر معها مغادرة الجزائر . ثم عاد بعدها إلى مدينة تيارت، ليعيش كمواطن بسيط إلى أن توفي شهر سبتمبر عام 2001
6 كان من بينهم بعض المجندين الجزائريين ومنهم الشهيد؛ كريب أحمد المدعو “أحمد ولد لمقدم”، الذي كان على اتصال بنظام الثّورة بطريقة سرية مما مكّنه بأن يقوم بتدبير وتهيئة وقائع الهجوم من داخل الثكنة العسكرية. وهذا ما لعب دورا حاسما في نجاح تلك العملية بصورة كاملة.
7 كان المجاهدون في مختلف الأقسام الأخرى، يشيرون إلى مجاهدي القسم الخامس بجنود عقب اللّيل
تلمسان معقل الفرق الفدائيّة
لقد تبوّأت مدينة تلمسان مكانة ملحوظة في مجال النظام الفدائي، إلى جانب التنظيمات الثّوريّة الأخرى، والمتعلقة بشبكة “الاتصال والأخبار والتموين”، خاصة في عهد التنظيم الثوري للأقسام 1955-1957 وحيث أن هذه المدينة ، شكّلت منذ الأول موقعا استراتيجيا ضمن مواقع “القسم الخامس”، فقد بادر “عقب اللّيل” بحكم ذلك، إلى تكوين مجموعات فدائية تحت مسؤولية ثلاثة من المجاهدين، عرفوا بإقدامهم وحيويتهم وهم؛ بوسكاية عبد القادر، والهواري، وبوحميدي. فقد تمكّن هؤلاء المجاهدين الثلاثة، في أول الأمر، من تنظيم عدد من الفرق الفدائية. تمركزت في أحياء شعبية من المدينة1. ولم تمض فترة طويلة حتى أسندت مهمة التنظيم الفدائي عام 1956 إلى المجاهد “مراد رشيد”، المدعو “منصور”، هذا الرجل الذي أصبح له دورا فعالا في تنشيط وتوسيع شبكة النظام الفدائي، بمعاونة وتدعيم من عناصر شبانية تنتمي في أغلبيتها إلى أسر في نفس المدينة، لطالما كانت لها علاقة نضالية بـعقب اللّيل قبل اندلاع الثّورة، في إطار الحركة الوطنية وخلايا “حزب الشعب”. ورغم ذلك فلم يمنع كلّ هذا من ظهور فرق فدائية مرتبطة بتنظيمات ثورية أخرى، كانت في مجموعها تابعة لهذا القسم أو ذاك، في إطار التنظيم الثوري للمنطقة الغربية. وإضافة إلى ذلك، فقد ظهرت في مدينة تلمسان بعض الخلايا الفدائية السرية تكونت انطلاقا من مبادرات فردية محلية، قادها عناصر من الشبان الوطنيين المتحمسين للثورة، والذين كانوا رغم صغر سنهم مناهضين للاستعمار، ويرغبون بشتى الوسائل في الالتحاق بالمجاهدين بالجبال. ومن ذلك على سبيل المثال؛ الخلية الفدائية التي قادها الشهيد “لطفي بودغن” إلى جانب الشهيد “بختي عبد الرزاق” وجلول قلوش، وجمال بختي، والطاهر قوار، وسيد أحمد كاهية ثاني، وسيد أحمد فعيلي، وغيرهم. وقد تكونت هذه الخلية بعدما تم لهم الاتصال بخلية فدائية سرية أخرى، كانت تنشط بمنطقة “القلعة”، ضمن النظام الفدائي التابع “للقسم الخامس” وبعد أن انكشف أمر هذه الخلية الفدائية (كان يقودها الشهيد لطفي)، في شهر أكتوبر 1955 للشرطة الاستعمارية، وذلك على إثر قيام عناصرها بهجومات جريئة روعت آنذاك مدينة تلمسان2. فقد اضطر قائد هذه الخلية الفدائية (لطفي) وجماعة من رفاقه إلى الفرار واللجوء إلى منطقة “ولاد رياح”3، حيث مكثوا هناك عدة أيام في انتظار الاتصال بإحدى تنظيمات الثّورة، من أجل الالتحاق بصفوف المجاهدين.ومن المعروف، فقد تمّ بعد ذلك مباشرة، وقد التحق (الشهيد لطفي) بصفوف المجاهدين، لقاءا بينه وبين “عقب اللّيل” بجهة تدعى “تيجديت” غرب وادي الزيتون. وكان من ضمن الحاضرين؛ المجاهد “وهراني أحمد” النائب العسكري. في هذا اللقاء اقترح “لطفي” في سياق كلامه حول دور مدينة تلمسان وإحكام النظام الثوري بين مواطنيها. اقترح تحويل هذه المدينة بضواحيها إلى قسم خاص ومستقل، بدلا أن تبقى تابعة “للقسم الخامس”. فاستمع إليه “عقب اللّيل” باهتمام بالغ، ثم رد عليه، وكعادته بطريقة مباشرة قائلا:«يبدو أنك جئت متعطشا ومتلهفا على المسؤولية في مدينة تلمسان… في الوقت الذي ليس لك أيّ صفة نظامية تؤهلك لذلك.. بل ما زلت أنت وأصحابك تحت المراقبة بالنسبة للثورة…فمن الأفضل أن تتحلى بالروية والصبر، وهذا أفضل لك… والمهم سأبعث بك إلى القيادة، واليفعلوا ما يشاؤون…».
ومن المعلوم فإن مدينة تلمسان قد تحولت بعد ذلك، أي بعد استشهاد “عقب اللّيل” وبعد تطبيق نظام الولايات بداية عام 1957، قد تحولت إلى قسم خاص تولى مسؤوليته المجاهد مجاهد بومدين المدعو “عبد الجبار” وقد كان من ضباط “القسم الخامس”
ومهما كان من أمر، فإن التنظيم الفدائي بمدينة تلمسان، وفي ظل التسيير الثوري “للقسم الخامس”، أخذ أبعادا مختلفة وأنشطة ثورية متنوعة، تراوحت بين الهجومات بالقنابل اليدوية على مراكز الاستعمار، وتهديد المتعاملين مع الشرطة الاستعمارية بشتى الطرق والوسائل، وتنفيذ عمليات القتل ضد عناصر الخونة، وتهريب الأسلحة والذخيرة. وفي هذا الشأن، فقد تكونت فرقة فدائية بالغة السرية والدقة، كانت عناصرها تتألف من بعض العسكريين الجزائريين داخل ثكنات الجيش الاستعماري، حيث أوكل إليها “عقب اللّيل” مهمة خاصة تنحصر فقط، من بين جميع الأنشطة، في تهريب “الذخيرة” إلى المجاهدين. وقد شهدت مدينة تلمسان بالفعل عملية هامة في هذا المجال، قد تكون فريدة من نوعها على مستوى الثّورة التحريرية. حيث عمدت هذه العناصر السرية داخل الجيش الاستعماري إلى تهريب كمية من “الذخيرة” بشكل خفي ومنتظم، ليتم تخزينها في كل مرة بمخزن للسلع كان يملكه شخص يهودي قريبا من “دار العدالة” بالشارع المسمى حاليا “السلم”. وقد كان يجري كلّ ذلك بفضل عمال المخزن الجزائريين، والذين كانوا من المناضلين السريين. استمرت هذه العملية الجريئة بضعة أشهر، وبعد أن تم تجميع كمية معتبرة من “الذخيرة” داخل هذا المخزن، كُلّف أحد المناضلين4 لنقلها، وكان يعمل كسائق في سيارة نقل (من نوع رونو) يملكها أحد الأفراد من أسرة كانت معروفة بتقربها من الإدارة الاستعمارية. لقد نقل هذا المناضل هذه الحمولة من الرصاص، وقد بلغ وزنها ما يقارب خمسة وعشرون قنطارا، في شهر فبراير 1956 حيث انطلق من مدينة تلمسان ليتوجه نحو قرية صبرة، ثم دشرة “واسار” حيث كان في انتظاره هناك “عقب اللّيل” وبعض الرفقاء من المجاهدين5.
وإذا ما تأملنا في طبيعة هذه الخطة الفدائية، من بدايتها إلى نهايتها، حيث كان مصدر التهريب من داخل الثكنات الاستعمارية، ثم التجميع والتخزين في مخزن يملكه “يهودي”، في منطقة تعجّ بالحركة والمراقبة (قريبا من دار العدالة)، ثم عملية النقل التي تمت بواسطة سيارة نقل يملكها واحد من الأشخاص تطمئن وتثق فيه الإدارة الاستعمارية، عبر طريق رئيسي تمرح فيه العديد من الدوريات العسكرية. فإنه ولا شك ندرك حينئذ مدى الأسلوب الفعال الذي كان يتسم به “عقب اللّيل” ورفقائه المجاهدين. كما ندرك مدى جرأتهم وإصرارهم على اختراق مناطق العدو، مهما كانت بها ترتيبات الأمن وإجراءات الحراسة. وإذن يمكن القول؛ بأن العمل الفدائي في مدينة تلمسان، كان له أسلوبه الخاص في تنفيذ العمليّات والانسحاب منها، أذكر من ذلك على سبيل التوضيح، ثلاثة أساليب رئيسة:
ينتظر الفدائي في محيط العملية ويتربص. خاصة إن كانت العملية تستهدف إلقاء قنبلة يدوية، أو قتل أحد من أفراد العدو أو الخونة. يتربص إلى حين يتصادف مرور سيارة نقل (مغطاة من الخلف). حينها ينفّذ الفدائي العملية ثم يقفز فورا خلف السيارة، دون أن يشعر به أحد بما في ذلك سائق السيارة نفسه، لينسحب منها بعدما تبتعد وتخرج عن محيط العملية. وبهذه الطريقة يتجنب الفدائي الهروب وسط المواطنين، كما يتحاشى ملاحقته من طرف الشرطة الاستعمارية عبر الطرق والشوارع.
يجيء الفدائي مختبئا خلف سيارة نفل مغطاة. على عكس الطريقة الأولى، وعند بلوغ المكان المعلوم ينفّذ العملية، ويبقى مختبئا إلى أن يبتعد عن مكان الخطر فيقفز بنفس الطريقة السرية، ويتوارى عن الأنظار.
يرتدي الفدائي اللباس العسكري المماثل للباس العدو. بحيث يكون هناك إتقان في التمويه، ويستطيع المرور والاقتراب من العساكر والشرطة الاستعمارية دون أن يلفت الانتباه. بل أحيانا كثيرا ما كان يتمكن الفدائي أو المجموعة الفدائية من التوغّل داخل المراكز والثكنات العسكرية، إذا اقتضى الأمر ذلك. ومن المعلوم بأنّ هذا الأسلوب الفدائي (التنكر بلباس العدو) هو الأسلوب الذي تميزت به مدينة تلمسان دون غيرها. ومن أشهر الفدائيين الذين تميزوا بطريقة التنكر هذه، كوسيلة للهجوم على مراكز العدو في عمقها، الشهيد بختي عبد الرزاق.
بختي عبد الرزاق
هو فدائي ومجاهد في نفس الوقت. يعد من الفدائيين الذين تألقوا في هذا النوع من التمويه والاختراق. وقد ساعده على ذلك –دون شك- لون بشرته الأبيض وعيناه الملونة وإتقانه الحديث باللغة الفرنسية. لقد التحق بالتنظيم الفدائي في شهر أكتوبر عام 1955، وإذ كان آنذاك يعدّ من أصغر الفدائيين سنا في مدينة تلمسان، إلاّ أنّه أصبح من أشدهم خطورة في الهجومات والعمليّات ضد عناصر العدو. ولأجل ذلك لجأت الشرطة السرية الاستعمارية وبدافع الانتقام إلى خطف والده الشهيد “محمد الصغير بختي”، ثم اقتدائه إلى منطقة الوريط شرق تلمسان، حيث قاموا بقتله بكل وحشية، ورموا بجثته على حافة الطريق. كلّ ذلك انتقاما –كما قلت- من ابنه (التلميذ الفدائي)، الذي قام بعدة عمليات فدائية جريئة. ومن أغرب ما يحكى عن إقدامه في العمل الفدائي، بأنه كثيرا ما كان يتمكن من الدخول والتوغل داخل مراكز الاستعمار، وهو متخف في زيهم العسكري. دون أن يكتشفوا أمره وحقيقته أو يميزوه عن عساكر الاستعمار. وقد التحق هذا التلميذ الفدائي المميّز بالمجاهدين بعد استشهاد والده مباشرة، ولم يجد نفسه بعد ذلك إلاّ في رفقة قائد “القسم الخامس” ومنذ ذلك الحين أصبح بالنسبة لـ “عقب اللّيل” الابن العزيز والمحارب الرفيق، والمجاهد المقدام في كل العمليّات والمعارك ضد الجيش الاستعماري إلى أن رافقه بنفس العزيمة والنية الخالصة في التضحية والاستشهاد.
ولعلّه من الضروري، في سياق الحديث عن العمل الفدائي بمدينة تلمسان أن أشير إلى عملية تخريب وحرق “مكتب سبدو”. وهي عملية جريئة أمر بها بصورة ملحة “عقب اللّيل”، ونفّذتها إحدى الخلايا الفدائية6 في 16 مارس عام 1956. لقد كان مقر هذه الإدارة الاستعمارية المستهدفة خلف البريد المركزي (ما يزال متواجدا في نفس المكان)، وكانت هذه الإدارة استعمارية تشرف على عدة مناطق تمتد من “عين النحالة” شرقا إلى منطقة “البويهي” غربا. وقد غنمت هذه الجماعة الفدائية بعد تنفيذها للعملية بكل إتقان، خمسين بندقية وخمسة عشر رشاشا وعشر مسدسات، بالإضافة إلى كمية كبيرة من الذخيرة، ومجموعة من الراقنات (آلات الكتابة)، وساحبة يدوية، وجميع ما كان موجودا من “خواتم” الإدارة الاستعمارية. وقد قام المجاهد بن دحمان محمد، وكان عنصرا أساسيا ضمن هذه الخلية الفدائية. حيث كان سائقا خاصا “للحاكم”. قام هذا المجاهد بنقل كلّ هذه الأشياء في سيارة “الحاكم” ذاته، وتوجه بها نحو دشرة “مليلية”. وهي غرب الحناية. حيث كانت هناك فرقة من المجاهدين في انتظاره. وبعد أن تسلم المجاهدون هذه الكمية من السلاح والعتاد الحربي، قام هذا المجاهد المذكور، بإعادة السيارة إلى الطريق الرابط بين تلمسان والحناية، في الجهة القريبة من “سيدي كانون”. ليقوم بحرقها ثم الالتحاق بالمجاهدين.
وعلى إثر هذه العملية الفدائية، التي كان لها وقعا كبيرا على الأوساط الاستعمارية، تحركت القوات الاستعمارية في كل اتجاه، محاولة تتبع آثار الفدائيين والمجاهدين. فضربت من أجل ذلك حصارا شديدا شمل المنطقة الجبلية كلها. من جبال تيرني وبني هديل وجبال صبرة. ثم امتد هذا “المسح” العسكري المكثف إلى أن بلغ جبال بني بحدل. كل ذلك كان من منطلق اعتقادهم بأن المجاهدين سيلجأون إلى المناطق الجبلية الغابية، بينما كانت وجهتهم نحو الشمال، عبر الأودية والشعاب، التي ترتبط فيما بينها، انطلاقا من غرب “مليلية”، نحو “ولاد رياح” و”زكدونة”.
وجدير بالذكر بأن “دشرة” مليلية بالإضافة إلى ذلك، شهدت عدة عمليات ثورية، كان من أشهرها الواقعة التي استشهد فيها أصغر إخوان عقب اللّيل وهي ذات الواقعة التي حشر فيها الجيش الاستعماري سكان هذه الدشرة، رجالها ونساؤها وأطفالها داخل المسجد. وحجزهم هناك عدة أيام، كعقاب جماعي لمساعدتهم وإخفائهم للمجاهدين.
الشهيد بوزيدي أحمد
لا باس أن أذكر بصورة مختصرة، قصة استشهاد هذا الأخ الأصغر الذي لم يكن عمره يتجاوز العشرين سنة، لعلي أضع أمام الشباب الجزائري صورة أخرى للتضحية من أجل الوطن، ولعله بذلك –أي الشباب الجزائري- يتمكن من التمييز بين الأبطال الحقيقيين من غيرهم. أولئك الذي لم يجئ ذكرهم لا في الكتب ولا في الخطب ولا في المناسبات. ولم يستسلموا للعدو، حتى وهم محاصرين داخل المخابئ. على خلاف الكثيرين الذين استسلموا رافعين أسلحتهم وما يزالون أحياء ويدّعون الجهاد والبطولات.
في 04 جانفي عام 1958، جاءت الجيش الاستعماري معلومات أوشى بها أحد الخونة، بأنّ هناك أربعة من المجاهدين. ومهمتهم زرع الألغام وقطع الأسلاك الشائكة. يقودهم “بوزيدي أحمد”، يختبئون في أحد المنازل بدشرة مليلية7. فاندفعت على إثر ذلك قوات عسكرية مدعمة بالدبابات والسيارات المصفحة،وأحاطت بالدشرة من كل الجهات. فانتشر العساكر وتموقعوا في كل ربوة وعلى سطح الأرض وفوق سطوح المنازل. فتمت محاصرة المنزل الذي كان في وسط حوشه “مخبأ” المجاهدين بصورة ضيّقة ومباشرة. فأسرعت صاحبة المنزل الشهيدة؛ “فرواني يامنة”8 واقتربت من “المخبأ” السري وسط الحوش لتهمس إليهم بأنهم أصبحوا في خطر. فالجيش الاستعماري أصبح متواجدا في كل جهة، وأن البيت هو كذلك محاصرا بجيش جرار (…فانظروا ما أنتم فاعلون…).
انقبض المجاهدون وارتبكوا لهذا الخبر المفاجئ، فقد أصبحوا محاصرين داخل “المخبأ”. وما هي إلاّ لحظات، حتى سمعوا قائد الجيش الاستعماري يقول لهم بمكبّر الصوت:«…أنتم محاصرون …ونحن نعرف عددكم ومكان وجودكم … فليس أمامكم إلاّ الاستسلام… فاخرجوا وأيديكم فوق رؤوسكم…».
لم يبق للمجاهدين، أي متسع لتدبر الموقف، فقام بعضهم بسحب قنبلته اليدوية وفك “خرصها” بدون أي تفكير، ووقف مستعدا لتفجيرها على نفسه، خوفا من الاستسلام والقبض عليه. فاقتدى به في الحين رفقاؤه الآخرون، وتهيّأوا لنفس الموقف. إلاّ أن مسؤولهم (بوزيدي أحمد) تدخل بكل ثبات وشدة قائلا لهم:«…كيف تقتلون أنفسكم بدون مقاومة… ماذا عساه أن يقول الناس… سيقولون قتلنا أنفسنا خوفا من العدو.. وإذا كنتم ترغبون في الموت، فهي على كل حال، موجودة “بالخارج” تنتظرنا…»، وما أن انتهى من كلامه حتى اندفع كالسّهم نحو الخارج، بطريقة لا يعلمها إلا الله وأصحابه الذين شاهدوه، وهو يفعل ذلك ليرمي بقنبلته على مجموعة من العساكر، كانوا يحاصرون “المخبأ” وسط الحوش، ثم اقتحمهم وهو يطلق الرصاص ذات اليمين وذات اليسار وفي كل اتجاه. ليستطيع بعد أن أثار الرعب في نفوسهم وأربكهم، وقد أوقع منهم ثمانية قتلى ليستطيع أن يتجاوزهم ويخرج من الحوش، ويتملص من حصار المنزل، ثم من حصار الدشرة. وبينما كان على وشك الارتماء في أحضان إحدى الشعاب من الناحية الشرقية، إذ لمحه في هذه اللحظات، أحد عناصر العدو وقد كان متموقعا برشاشته الثقيلة (بياسة)، في المواقع الخلفية، فأطلق عليه وابلا من الرصاص، أصابه في جميع نواحي جسمه من الخلف، ليسقط هذا البطل متمرغا في التراب، تماما كما يسقط الفرس الجامح. بعدما انتقم لنفسه وللمجاهدين رفاقه، الذين اتبعوا خطواته محاولين اقتحام الحصار فاستشهدوا الواحد وراء الآخر على أبواب المخبأ.9
1 الأحياء الشعبية؛ مثل القلعة والمدرس وسيدي الحلوي وأغادير.
2 الهجوم على معمل النسيج M.T.U ثم الهجوم على مطعم “لوبيرج” ،الذي كان بداخله مجموعة من ضباط الجيش الفرنسي وشرطته.
3 لم يمض وقت طويل حتى بلغ خبر هذه الجماعة المتمركزة بمنطقة “ولاد رياح” إلى “بوصوف” الذي أسرع بدوره للاتصال بـ “عقب اللّيل”، طالبا منه القبض على هذه “الجماعة” أو قتل أفرادها. إذا ما شك في أمرهم، وقد كلف “عقب اللّيل” للقيام بهذه المهمة المجاهد “بن زيان”، هو قائد مجموعة، حيث عثر عليهم في دار “بن توات”، اين كانوا مختبئين وينتظرون الاتصال بالمجاهدين. وبعد أن استقصى في أمرهم، بحيث وجدهم عناصر من الشباب، ومن ضمنهم “لطفي” يرتدون لباسا عسكريا ومسلحين، وهم يرغبون في الالتحاق بنظام الثّورة. حينها عاد المجاهد “بن زيان” إلى قائده، وهو مقتنع بحقيقة أمرهم، مما جعله لا ينفذ أي شيء من الأوامر التي وصلت من القيادة من مدينة وجدة.
4 هذا المناضل والذي التحق بالمجاهدين بعد هذه العملية هو: دحماني بن عمر.
5 كان اللقاء بدار عائلة “مزوار”، حيث جرى ترتيب وتنظيم هذه الكمية من “الذخيرة”، لتوزع على مختلف الجهات عبر الأقسام.
6 لقد شارك في هذه العملية الفدائية مجموعة من العناصر الفدائية، نتيجة لصعوبتها وأهميتها ، وكان الشخص الأساسي فيها المجاهد “بن دحمان محمد”، بوصفه كان سائقا “للحاكم”، ثم الفدائي الجريء المدعو “مامي”، بالإضافة إلى بوجمعة، والعيوني بن دحمان، ورشيد بن ديمراد، ومحمد بختي، وحمادي بوسيف، والعربي، ورشيد بن بلال، وبودخيل، ومحمد التريكي، وهو الصيدلي الذي زود الفرقة الفدائية بـ “لفافات”، “استعملت في إضرام النار لحرق الإدارة الاستعمارية” .
7 تقع دشرة مليلية غرب قرية الحناية ولاية تلمسان.
8الشهيدة : فرواني يامنة، قتلها عساكر الاستعمار في نفس المكان، بعدما أنكرت وجود المجاهدين، بينما كانوا على علم بكلّ شيء، كما قتل الشهيدة: مصطفاوي فاطمة لنفس السبب.
9 لقد نجا المجاهد؛ هداجي أحمد، من هذه المجموعة، بعدما كان من عداد الأموات، حيث اكتشف أحد عناصر جيش العدو، بأنّ الرجل مازال يتنفس، فنقل إلى المستشفى وكتبت له الحياة إلى يومنا هذا. وهو المجاهد الذي تفضل بتزويدي بمنطوق الحديث الذي دار بينهم داخل “المخبأ”، كما منحني صور الشهداء.
معارك وبطولات
إنه لمن الصعوبة بمكان أن نحيط في هذا المجال بجميع العمليّات الثّوريّة، بأنواعها وتفاصيلها. إنّها لعديدة ومتنوعة تلك العمليّات الثّوريّة التي نفّذها المجاهدون، في رحاب تنظيمات “القسم الخامس”، بقيادة “عقب اللّيل”. منها ما كان يعد بمثابة معارك حاسمة، واجه فيها المجاهدون القوات الاستعمارية مواجهة مباشرة. ومنها ما كان عبارة عن هجومات وكمائن مباغتة أو عمليات فدائية وتخريب للمنشآت الاستعمارية وهذه تعدّ بالعشرات.
ومن الملفت للانتباه في هذا الصدد، أنّ كلّ ذلك جرى تحقيقه في فترة وجيزة لا تتعدّ السنتين1954-1956 وهي مرحلة صعبة من عمر الثّورة التحريرية. إذ كان مصيرها في هذه الأثناء مرتبطا أشدّ الارتباط بمدى نجاح هذه العمليّات والهجومات الجريئة على مستوى التراب الوطني. ذلك ما جعل من وجودها أمرا شاملا ومؤكدا، وأعطى انطباعا واضحا بجدية وفاعلية انطلاقها. وقبل كل شيء الأمر الّذي عكس مدى تمكّن الثّورة من جملة الوسائل البشرية والمادية. فصارت واقعا ملموسا يتحدى الوجود الاستعماري.
وإذن فالثّورة التحريرية في هذه المرحلة بالذات، كانت بحقّ في أمس الحاجة إلى مثل هذه العمليّات العسكرية الناجحة والمؤثرة. ليس فقط لإرباك الاستعمار الفرنسي، وإنما أيضا لكسب ثقة الشعب الجزائري، وحثه على الالتفاف والانخراط في نظامها.
والمؤكد أن “عقب اللّيل” في هذا الميدان، أي ميدان القتال، كان محاربا شديدا. ذاع صيته في جميع المعارك التي خاضها رفقة إخوانه المجاهدين. فبرز في الميدان كشخصية قيادية ليس كتلك الشخصيات القيادية التي كانت تتقهقر وتتخلف عن جميع المعارك، وتهرب من أيّ مواجهة. إنّما كان مقداما شجاعا يسعى إلى التضحية ويروم الشهادة. وخير دليل على ذلك، فإنه كثيرا ما أصيب بجروح، وهو يخوض غمار هذه المعركة أو تلك. اتّسم هذا المقاتل بأسلوبه المميز في العمليّات الثّوريّة، والتي كان قوامها ردّ الفعل المباشر ضدّ الجيش الاستعماري، كلّما أقدم على عمليات عسكرية تستهدف المجاهدين، أو يقوم بقتل المدنيين و التنكيل بهم. بل كثيرا ما كانت ردود فعله الانتقامية ما تحصل والعسكر الاستعماري ما يزال في حالة الانسحاب من عملياته، ولم يتمكن بعد من بلوغ مراكزه. ذلك لأن هذا الرجل الثوري قد أدرك منذ الوهلة الأولى بأن في هذا الأسلوب الحربي تكمن قوة الثّورة. وفضلا عن ذلك، فهو تعبير مجسد عن مدى استعداد المجاهدين وإمكانيتهم وقدرتهم على الانتقام في جميع الظروف وجميع الحالات. كما كان على بينة لا محالة، بأن هذا الأسلوب الثوري رسالة واضحة للنظام الاستعماري تجعله يفهم بأنّه يواجه جيشا منظما ومدربا، يملك القوة والوسائل والقدرة على المبادرة، وليس الأمر متعلق فقط – كما كان النظام الاستعماري يروّج دائما- بمواجهة مجموعة محدودة من العصابات والخارجين عن القانون. أو كما كان يدعى ويصفهم بالإرهابيين وقطاع الطرق المختبئين في الجبال.
والحق يقال لم يكن هناك –كما أعلم- في هذه الفترة بالذات، وعلى مستوى الثّورة في نطاقها الوطني، أي جيش من المجاهدين منظما ومدربا ومسلحا بمختلف الأسلحة الخفيفة والثقيلة، كمثل جيش المجاهدين الذي قام “عقب اللّيل” بإعداده وتهيئته للقتال، على أعلى مستوى في التقنيات الثّوريّة، وبأفضل الوسائل الحربية. وانطلاقا من هذا الإعداد المحكم شهدت المنطقة التي كانت تحت إشراف “القسم الخامس” حملة من العمليّات الثّوريّة والعسكرية، أربكت الجيش الاستعماري، وبالتالي ساهمت بشكل فعال، إلى جانب المناطق الأخرى من الوطن، في جعل الإدارة الاستعمارية – وقد كانت رافضة – تدرك وتعترف بحقيقة الثّورة المسلحة وقدرتها التنظيمية والقتالية. وحسبنا في هذا المقام التعرض لكبريات هذه العمليّات، دون الدخول في سرد تفاصيل تتعلق بهجومات ثورية أخرى. كثيرا ما كانت تحدث هنا وهناك، وهي عديدة ومتنوعة، ومن ذلك على سبيل المثال ما يلي.
عملية سيدي يحيى (الكاف)
الذي دمّر فيها المجاهدون عددا من الشاحنات العسكرية، بما في ذلك القضاء على جميع عساكرها. ولشدة تأثر الجيش الاستعماري من جراء هذه العملية، فلم يتردد بعد ذلك مباشرة، في قتل حوالي أربعين من المدنيين العزّل، وكلهم يعودون إلى نفس الجهة.
هجوم وسار
الذي أسفر على حرق حافلة وشاحنة عسكرية، من نوع “جامسي” وسيارة “جيب”. الأمر الذي جعل مدفعية العدو التي كانت متمركزة في الموقع العسكري بدوار “تافنة” بالتدخل قاصفة المنطقة بشكل عشوائي.
كمين السويق
وهو مكان بين صبرة ووادي الزيتون، في الطريق الرابط بين تلمسان ومغنية. حيث قامت مجموعة من المجاهدين بتوقيف عدد من السيارات، كان بها عناصر من المعمرين والمجندين في صفوف العدو. فتم اختطافهم ثم إعدامهم من طرف المجاهدين، بعدما اقتادوهم نحو الجهة الجبلية.
عملية تخريب القطار
التي وقعت على بعد بضعة كيلومترات من قرية صبرة. حيث كان القطار متوجها نحو مدينة مغنية. فكانت النتيجة تحطيم جانب هام من عرباته، كما أصيبت السكة الحديدية بأضرار جسيمة.
هذه بعض من العمليّات والهجومات، التي قام بتنفيذها المجاهدون في الفترة بين عام 1955 وعام 1956. أما فيما يخص تلك العمليّات الهامة، التي خاضها المجاهدون البواسل بقيادة “عقب اللّيل”، والتي كانت تعتبر حربا حقيقية ضد جيش العدو الاستعماري، فيمكن الإشارة إلى أربعة معارك ضارية. كانت كلها شاهدة على شجاعة هذا الرجل القائد، وعلى استبسال وتضحيات جميع أصحابه المجاهدين الّذين كانوا مؤمنين إيمانا قاطعا بحتمية النصر وضرورة استقلال الجزائر، وتحرّر شعبها من الاستعمار الفرنسي.
معركة صد النمر
أبريل عام 1956 ، راقب المجاهدون بأمر من “عقب اللّيل”، تحركات قافلة عسكرية للجيش الاستعماري، اعتادت من حين لآخر أن تتوغل نحو جبال “موطاس”، سالكة الطريق الجبلي الذي يربط بين صبرة و موطاس، حيث كانت مهمة هذه القافلة تتمثل في الاستطلاع. ثم مراقبة المنقطة الجبلية، التي تتميز بوعرة مسالكها وغاباتها الكثيفة. وقد استمرت هذه المراقبة حوالي عشرين يوما، ليتمكن المجاهدون بعدها من معرفة دقيقة ومحددة لقوتهم وعدّتهم. كما تم رصد أوقات المرور والعودة وكل ما يتعلق بتحركات جيش العدو في هذه المنطقة. الأمر الذي سمح للمجاهدين في نهاية الأمر، بضبط وتحديد التوقيت لنصب كمين لهم في موضع استراتيجي يسمح بالمباغتة، ويساعد على شل حركة العدو أثناء الهجوم، ليتكبّد أكبر حد من الخسائر المادية والبشرية.
وقع الهجوم بالفعل، كما حدد التخطيط ذلك على هذه القافلة العسكرية، بمكان يسمى “صدّ النمر”، في أحد منعطفات الطريق بشعبة في أعلى وادي “العِرْساة”، نحو الجنوب: وهي في موقع يتميز بالانحدار والعمق وكثافة الغابة المتكونة خاصة من أشجار البلوط والعرعار والضرو. والمهم فقد انتهى هجوم المجاهدين المباغت بتدمير ثلاثة شاحنات عسكرية، وقتل خمسة وعشرين من العساكر، بينما هرب البعض منهم عبر الغابة الكثيفة تجاه قرية بوحلو، حيث مقر الإدارة الاستعمارية.كما غنم المجاهدون في هذا الهجوم عددا كبيرا من الأسلحة، من رشاشات وبنادق أمريكية وقنابل يدوية.
ومن المعروف بأن “الزعيم” هواري بومدين، وهو آنذاك من قيادة الثّورة في الجهة الغربية، قبل أن يستقر به المقام في مدينة وجدة، أقول كان شاهدا على هذه العملية العسكرية. فقد اتخذ مكانا بعيدا عن “المغامرة”، وأخذ يراقب من هناك أحداث القتال من أوله إلى آخره. وبينما كان المجاهدون منشغلين بجمع الأسلحة والعتاد الحربي، الذي خلفه العساكر الفرنسيين، إذ لمح “عقب اللّيل” أحد العساكر، على بعد عشرات الأمتار، وهو في حالة فرار ويبدو أنه تخلف عن مجموعته، التي لاذت بالفرار من جحيم هذه المعركة. لمحه وهو يسلك منحدرا كثيف الغابة وعر المسالك نحو الشمال من موقع المعركة، فصوّب بندقيته نحوه وأخذ يتتبع حركات هذا العسكري لحظات من الزمن، وهو منطلق بكل جهده محاولا أن يتوارى عن مكان الخطر. فأخذ يظهر مرة ويختفي مرة أخرى، ومازال حاله كذلك، حتى كاد أن يغيب عن مرأى العين، وفي لحظة من اللحظات خرجت من بندقية “عقب اللّيل” في اتجاهه طلقة واحدة لا غير. ثم اقترب من أحد المجاهدين، وطلب منه الذهاب وسط الأدغال إلى عين المكان لاستقصاء حقيقة الأمر. وبعد أن غاب هذا المجاهد فترة من الزمن، وهو يبحث وسط الغابة، عاد ليؤكد مقتل هذا العسكري، وبحوزته السلاح الذي كان يمتلكه.
بهذه الخطة الدقيقة إذن تمكن المجاهدون من هذه الدورية الاستعمارية، ولم يتركوا لعساكرها أي فرصة للحركة. فقتلوا أغلبيتهم، بينما تمكن آخرون من الهروب وهم لا يلوون على شيء.
انسحب “عقب اللّيل” بعد ذلك، نحو دوار “تمكسالت”. وأثناء الاستراحة ألقى عليهم –كعادته دائما- ألقى كلمة شرح فيها المغزى من وراء هذه العملية. حيث أكد بأنها رسالة موجهة للعدو، ليفهم بأن المجاهدين متواجدون في اي مكان، وعلى الخصوص في المناطق الجبلية. ولم يعد من السهل على الجيش الاستعماري أن يقتحم هذه الأماكن، دون أن يكلفه ذلك ثمنا باهضا، بل وعليه أن ينتظر دائما من المجاهدين مفاجآت من هذا النوع.
كمين برباطة وحصار صبرة
في يوم 22 جوان1956 تمركزت بعض المجموعات من المجاهدين التابعين للقسم الخامس بأرض جبلية جنوب قرية “صبرة”، قريبا من مكان يسمى “مول الدشرة”. وهذا في الوقت الذي كانت فيه قوات كبيرة من الجيش الفرنسي تزحف ليلا نحو المناطق الجبلية الجنوبية، ما بين جبال “موطاس” وجبال “أحفير” غربا. وقد قدمت هذه القوات العسكرية من تلمسان ومغنية عبر قوافل متتالية، حيث تجمعت في المرحلة الأولى في ملعب قرية “صبرة”، ثم أخذت المروحيات تنقلها في المرحلة الثانية، صوب المرتفعات الجنوبية السالفة الذكر. فانطلقت من هنالك في اليوم الموالي في عملية تمشيط واسعة. الأمر الذي تنبه إليه المجاهدون، فأخذوا ينسحبون من المكان قاصدين جهات مختلفة بعيدة عن الحصار. فتوجه بعضهم شرقا ليتجاوزوا جبال “أحفير”. بينما توجهت مجموعتان إلى خلف مرتفعات “البريج” المسماة “القلعة”، في اتجاه الجنوب. وكان يقود المجموعة الأولى، الشهيد: “معروف عبد الرزاق”؛ المدعو “محمد موسى” وهو مجاهد صنديد ظل مرافقا لـ “عقب اللّيل” في جميع المحن والصعوبات. وقد استشهد بداية عام 1957 في اشتباك مع جيش العدو، وقع في جبل “بُوجْودَار”، شمال وادي تافنة.
أما المجموعة الثانية فقد كان يقودها “بوزيدي الحبيب” ويسمى كذلك “عبد الحميد”. وهو الآخر بطل مغوار من المرافقين الدائمين لـ “عقب اللّيل”، استشهد في أوائل عام 1959 بمنطقة “أم العلو” شرق تلمسان. وهكذا فبهذه الكيفية انسحبت فرق المجاهدين ليتجمّعوا مرة أخرى في منخفض وادي بوحداد. ورغم كل ذلك فقد تخلفت بعض الجماعات من المجاهدين، هنا وهناك داخل الحصار، حيث فاجأهم الجيش الاستعماري، وقد وقعت المنطقة كلها تحت سيطرته. فنشب قتال وتصادم بشكل متفرق مما أدى إلى استشهاد ثلاثة من المجاهدين، بينما وقع في الأسر إحدى عشر من المسبّلين1،معهما حيث تم إعدامهم جميعا في وقت لاحق، بعدما نكّلوا بهم وكسّروا أسنانهم. وفي أثناء استمرار عملية التمشيط فقد باغت أحد المجاهدين البواسل عساكر العدو بوابل من الرصاص، أطلقه من رشاشه، فقتل خمسة منهم على الفور. ولأنّه كان محاطا من طرف جيش العدو من كل جهة، فقد استشهد مباشرة بعد ذلك. وخلاصة هذه الواقعة، فقد دار في هذه المنطقة التي أخضعت للحصار اشتباكات وتبادل لإطلاق الرصاص في أماكن مختلفة، بين عناصر من المجاهدين كانوا في الغالب مختبئين وسط هذا الحصار، وبين جيش العدو. وقد أدى ذلك إلى سقوط قتلى من الجانبين.
إلاّ أن جيش العدو، وهو في طريقه إلى الانسحاب، لم يتردد في قتل عدد من المدنيين العزل، بدافع الانتقام وبطريقة عشوائية. مما رفع عدد الشهداء إلى حوالي خمسة عشر، ما بين مجاهدين ومدنيين. في هذه الأثناء كان “عقب اللّيل” وجماعة قليلة من المجاهدين من الفرقة الخاصة؛ أمثال بختي عبد الرزاق، وأحمد الحاج، وبلعربي الوهراني وبن دحمان محمد، وغيرهم قد وصلوا إلى “زكدونة”. وهي في الجهة المشرفة على حمام بوغرارة من ناحية الجنوب، قادمين من ناحية مدينة تلمسان. حيث استقر بهم الأمر في إحدى البيوت الريفية. إلاّ أنه في الوقت الذي قدّم إليهم صاحب البيت شيئا من الطعام، دخل عليهم أحد رجال الاتصال، وهو في حالة فزع، ليخبر “عقب اللّيل” بوقائع العمل الإجرامي الذي قام به الجيش الاستعماري، خاصة ضد المواطنين المدنيين. وقد أخبره في ذات الوقت بتحرك قوات الاستعمار نحو الانسحاب. ما أن سمع “عقب اللّيل” هذا الخبر حتى قفز واقفا ليخاطب أصحابه المجاهدين قائلا:«…أقسم بدم الشهداء الطاهر لا يستريح أي واحد منا ولن نأكل أيّ طعام قبل أن ننتقم لشهدائنا، ونلقن درسا قاسيا للعسكر الفرنسي لن ينساه…»، عند ذلك تهيّأ الجميع وأخذوا يتفقّدون أسلحتهم بكل حرص وثبات، وهم يدركون مدى جدية قائدهم في مثل هذه المواقف، فانطلقوا تاركين وراءهم الطعام، دون أن يلمسه أحد. وقد كانوا بطبيعة الحال في أمس الحاجة إليه، وتوجهوا بسرعة فائقة، انطلاقا من أرض “زكدونة”، شمال صبرة، نحو الجنوب قاطعين مسافة حوالي ثمانية كلم2، عبر وادي برباطة، حيث لا أحد يستطيع أن يتنبه إلى وجودهم، إلى أن وصلوا إلى مفترق الطرق. أين يتجه طريق نحو مدينة مغنية وطريق نحو قرية بوحلو وسيدي مجاهد. والمكان عبارة عن منخفض قريب من ضريح “سيدي محمد بن حليلم”. إنّه الموقع الذي تمر به القوات الاستعمارية، وهي في طريقها إلى العودة. فنصب المجاهدون هنالك كمينا محكما للعساكر العائدين من عملية التمشيط. حيث كانت الخطة تتمثل في أن يفسح المجال للطلائع الأولى من القافلة بالمرور، بينما يقع الهجوم على مؤخرتها.
استعمل المجاهدون في هجومهم في أول الأمر قنابل “المولوتوف”، ثم شرعوا بعد ذلك في إطلاق النار على عساكر العدو من مواقع مختلفة. دُمرت شاحنة عسكرية بكاملها وتم قتل واحد وعشرين من العسكر، كانوا في معظمهم يحاولون الفرار والهروب من لهيب النيران. ومن ذلك تلك المحاولة التي قام بها ضابط من الجيش الفرنسي، عندما قفز من شاحنته التي كانت تحترق وبحوزته “رشاش” من النوع الثقيل كان يحاول تهريبه بشتى الطرق، لكي لا يقع في يد المجاهدين. وذلك لأهميته وقيمته الحربية. إلاّ أن “عقب اللّيل” فقد لمح محاولته هذه، حيث كان قريبا منه، فانقض عليه ودخل معه في قتال متلاحم وما لبث أن رماه أرضا ليقتله، ويسحب منه هذا الرشاش2 ليضاف إلى مجموعة هامة من السلاح والذخيرة تم اغتنامها في هذا الهجوم.3
وإذا كانت هذه العملية الجريئة قد قام بها المجاهدون من منطلق الانتقام المباشر، ضد العسكر الفرنسي، لما ارتكبه من قتل في حق بعض المجاهدين والمدنيين، دون تمييز، فإن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، ولم يكن كلّ ذلك كافيا في نظر “عقب اللّيل” للانتقام من جيش الاستعمار.
فبعدما انسحب المجاهدون تباعا، وتوزعوا في أماكن مختلفة بمنطقة “زكدونة”، وهي الجهة التي تمت منها الانطلاقة في الهجوم السابق، وبعدما توافد جميع المجاهدين الذين تمكنوا من الإفلات من الحصار. عند ذلك عمد “عقب اللّيل” إلى جمع جموع المجاهدين بكافة فرقهم المختلفة بينما الوقت يميل إلى الغروب ليقول لهم؛ بأن عملية الانتقام من العسكر الفرنسي لا ينبغي أن تتوقف عند هذا الحدّ. وأنّه ما زالت هناك مهمة ثورية أخرى، حتى نبرهن للمستعمر، بأنّ الثّورة لها من القوة العسكرية، ومن الرجال الأشداء المدربين، ما يجعلها قادرة تحت أيّ ظرف، في أي مكان وفي أي وقت على المبادرة والهجوم من أجل الانتقام. وتنفيذا لهذه الفكرة، فقد وضعت خطة مستعجلة كان هدفها محاصرة قرية صبرة ثم اختراقها. رغم أن المنطقة ما تزال مدججة بجيش كبير جاء من مناطق مختلفة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. وغني عن البيان بأنّ الهدف من وراء هذه العملية هو قبل كل شيء، إثارة الرعب في أوساط المعمرين وإثبات بأن المجاهدين قادرون على مهاجمة العدو في عقر داره وداخل مراكزه.
أثناء بداية تنفيذ الخطة، كانت الطائرات الاستكشافية لا تزال تحوم في سماء المنطقة، لذلك قرر المجاهدون ارتداء “جلابيب” لإخفاء زيهم العسكري وهم ينتقلون إلى وادي “بورديم” وهو الأقرب إليهم، والذي سيكون هو المسلك الرئيسي الذي سيصلون عبره إلى مشارف القرية. وإذن فقد كانت خطة الحصار التي قادها “عقب اللّيل” ورفقائه من الفرقة الخاصة تتمحور حول الإحاطة بقرية صبرة من جميع الجهات الأربعة، وذلك من خلال تمركز كل مجموعة من المجاهدين في جهة معينة.
فقاد المجموعة الأولى الشهيد؛ بوزيدي الحبيب (عبد الحميد)، والمجموعة الثانية الشهيد؛ معروف عبد الرزاق (محمد موسى)، كما قاد المجموعة الثالثة المجاهد؛ نقادي بن زيان، والمجموعة الرابعة المجاهد؛ سحنون محمد (عنتر). بينما كان على رأس هذه المجموعات المسؤول العسكري في القسم وهو المجاهد، الوهراني أحمد (السي لخضر)، أعطيت الأوامر لهؤلاء القادة بعدم الإقدام على إطلاق النار مهما كانت الظروف إلى حين يصل إلى سمعهم طلقات رصاص من داخل القرية. وبالموازاة مع كل ذلك، كلّفت فرقة خاصة بقيادة الشهيد؛ الزيتوني بوعزة، ترتدي ملابس عسكرية مشابهة للباس الجيش الفرنسي، ومسلحة في ذات الوقت بنوع أسلحته. وذلك قصد التمويه لاختراق طرقات القرية، فتبدو وكأنها فرقة من دوريات جيش العدو. وقد تمكنت بالفعل هذه الفرقة من المجاهدين، بعد غروب الشمس من الدخول، وأخذت تجوب طرقات القرية. وبينما هي كذلك تقاطعت مع دورية للجيش الاستعماري، وما هي إلاّ لحظات حتى فتح المجاهدون نيران أسلحتهم على عساكر العدو بطريقة فجائية، تم قتلهم جميعا وكان عددهم حوالي إحدى عشر عنصرا. فاستولوا على أسلحتهم وانسحبوا على الفور. وما أن وصل إلى سمع المجاهدين المحاصرين للقرية طلقات الرصاص حتى شرعوا في إطلاق النار دفعة واحدة، ومن جميع النواحي، مع تفجير القنابل اليدوية في مختلف الأماكن، قصد إرباك جيش العدو ومنعه من حرية الحركة، ثم إثارة الهلع في صفوفه.
لم يمض على انسحاب فرق المجاهدين إلا وقتا قصيرا، بعدما نفّذت هذه العملية الثّوريّة بنجاح كامل وفي وقتها المحدد، حتى أطلقت الأضواء الكاشفة وتبعها وابل من طلقات المدفعية في كل اتجاه بطريقة عشوائية. بينما كان المجاهدون قد شرعوا في تنفيذ المرحلة الأخيرة من الخطة، وتتمثل في العمل على إخلاء المنطقة من المجاهدين بصورة كاملة. حيث كان من المنتظر، وكما هي العادة، أن يقوم الجيش الاستعماري في اليوم الموالي بعملية تمشيط واكتساح، لما يتوفر عليه من قوات عسكرية ومن وسائل مادية. فتوجهت إذن فرقتان من المجاهدين صحبة قائد القسم نحو جبال “فلاوسن” شمالا. بينما توجهت الفرقة الثالثة نحو جبال أولاد ميمون. والمجموعة الرابعة صارت عبر وادي تافنة في اتجاه الجنوب لتستقر في جبال بني هديل. وكما كان متوقعا، فقد قامت القوات الاستعمارية باكتساح كامل للمنطقة. إلاّ أنها فشلت في أن تعثر على أي أثر للمجاهدين.
إنّ التأمل في هذه العملية الثّوريّة المزدوجة الجريئة، والتي نفذت في وقت قصير، كرد فعل مباشر وقوي من طرف المجاهدين ليكلف العدو 32 قتيلا، لا شك كل ذلك يجعلنا نقدر تضحيات المجاهدين، وندرك الاستعداد الذي كانوا عليه. سواء في التدريب والقدرة القتالية أو في الإخلاص للثورة وأهدافها التحررية. وهو الأمر الذي ظل يجسده المجاهدون، في تنظيمات القسم الخامس بقيادة “عقب اللّيل” في كل لمواقف الثّوريّة. هذا القائد الذي لم يقصّر في شيء، ولم يتقاعص أو يتردد في نطاق مسؤوليته من أجل جعل الثّورة واقعا مجسّدا، لا ينبغي بأي حال، التهاون أو التخاذل في سبيل تحقيق أهدافها الوطنية.
معركة الرحا
تعدّ هذه المعركة من المعارك الطاحنة والحاسمة، في هذه الفترة من حياة الثّورة، في المنطقة الغربية كلها. فقد واجه فيها المجاهدون جيش المستعمر مواجهة مباشرة طيلة يومين كاملين ، 23- 24 جويلية 1956. استخدمت فيها جميع الآليات الحربية والقتالية. من السلاح الخفيف إلى السلاح الثقيل ومن المدفعية إلى الطائرات. وقد حصل أن توغل المجاهدون البواسل واخترقوا صفوف العدو فتحولت المعركة إلى قتال متلاحم (فرد لفرد) فاستعمل فيها السلاح الأبيض، أي طعنات الخناجر. ونظرا لتدخل قذائف المدفعية الكثيف وقصف الطيران المركّز، والذي لم يتوقف قط طيلة المعركة، فقد تحول ميدان المعركة، والذي كان واسعا، والوقت نهارا إلى ما يشبه اللّيل الدامس. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل تزايدت حدة المعركة وتشابكت لدرجة تفرقت وتشتّتت فيها جموع المجاهدين المقاتلين في كل مكان وفي كل اتجاه. بحيث أصبح كل فرد منهم قائما ومستقلا بذاته، ولا حول ولا قوة له، وهو وسط جيش جرار من العدو إلا ما أقدم عليه من بسالة واستماتة في القتال. فكثيرا ما كان المجاهد في هذه المعركة الطاحنة لا يستطيع أن يميز بين رفقائه وأفراد العدو إلا بصعوبة كبيرة. والحق يقال؛ فكثيرا ما كان يصطدم أحدهم بالآخر دون سابق إنذار، فيشتبكان عند ذلك في معركة جسدية بالسلاح الأبيض. لم يعد هناك في هذه المعركة، رغم اتساع رقعتها، ركن يمكن الركون إليه، أو مخرج يمكن الخروج منه. كما أنه لم يعد هناك وقت ولا حتى لحظات تسمح بالتقاط الأنفاس، أو التهدئة من روعة النفس وضبطها، أمام هول المعركة وشدة الموقف وحدة القتال ومواجهة الموت.
تلكم هي حقائق معركة الرحا الطاحنة، التي لم يفت الإدارة الاستعمارية بأن تشير وتذكر في تقريرها اسم قائد المجاهدين فيها، وأن تحدد شخصيته بدقة، ألا وهوالمختار بوزيدي “عقب اللّيل”.ومن الضروري في هذا الموضوع الإشارة إلى تقرير الإدارة الاستعمارية وعرضه كما نشرته في صحافتها آنذاك4دون أي تغيير، باستثناء تلك الحقائق التي تتعلق بعدد القتلى في صفوف العدو وخسارته في هذه المعركة. أو ما يتعلق بعدد الشهداء من المجاهدين.
نص معركة “الرحا” كما نشر في جريدة L’ECHO D’ORAN
–تقرير الإدارة الاستعمارية (ترجمة):
-حصيلة معركة “توران”5– 64 من الثوار قُتلوا.
-قاد المعركة فرق من الجيش الفرنسي، وقد بلغت حدتها إلى درجة المواجهة فرد لفرد، في أرض بالغة الصعوبة.
-تلمسان 23 جويلية 1956، إن الاشتباك العنيف وقع البارحة وقبل البارحة (21-22جويلية) في غابة الرحا التي تقع حوالي خمسة كلم إلى الجنوب الشرقي من “توران”، باتجاه غابة أحفير. وهي منطقة تنتهي بخوارق متوحشة وعميقة ومعزولة وكثيفة الغابات صعبة الاختراق. تعتبر هذه المنطقة، ومنذ مدة طويلة، معاقل رئيسة للمتمردين. يشقها ممر جبلي يربط الطريق الوطني تلمسان-توران بالطريق رقم 54، وهو طريق كثير الحركة، يربط تلمسان ببني بحدل، ويرتفع هذا الممر عبر منطقة “أهل الغافر”، عند سفوح قمم جبلية متعددة يزيد علوها عن 1300م.
لقد سمحت المعلومات الدقيقة التي توفرت، والتي جمعت بعناية، سمحت أخيرا للقوات العسكرية بتنفيذ فعال لعملية مفاجئة، قام بإعدادها وتنفيذها الكلونيل قائد هذا القطاع. مع العلم بأنه لم يتسرب أي شيء عن هذه العملية، الأمر الذي مكن لفرقنا بالتدخل السريع، مستفيدة من عامل المفاجأة.
قدّر عدد عصابة المتمردين بحوالي 300فرد، وكانت هذه العصابة مسلحة تسليحا فائقا، وتتوفر على عدد كبير من الأسلحة الآلية، كان يقودها المدعو؛ المختار بوزيدي6، ويعود أصله إلى ذات المنطقة.
كانت هذه العصابة أيضا تتكون من رجال من نفس “الدوار”، وهذا ما كان يشكل دعما مؤكدا “للفلاقة”. وينبغي أن نعترف، بان القيادة لإدراكها لكل الصعوبات الممكنة في هذه المنطقة، فقد مكّنها ذلك من تحقيق تستر عسكري كامل. كما أن الشباب المجنّد، والّذي تم استدعاؤهم، أصبحوا متأقلمين مع حرب العصابات، بصورة خاصة، وبدون عناء. فإن خبرتهم في المعركة أصبحت عالية لدرجة أثارت إعجاب قادتهم.
معركة شرسة:
كانت المواجهة سريعة وعنيفة، حاصرت قواتنا المتمردين الذين كانوا يتقدمون بصعوبة بالغة، في معركة تفاجأوا فيها بزحف مباغت، فتمركز الخارجون عن القانون في كل جهة، بمواقع أرضها صعبة، محتمون وراء الصخور.
إنّ وحدة التنين7 للفيف الأجنبي مدعمة بفرق عسكرية من المعمرين، واجهوا نيرنا مكثفة، من البنادق والرشاشات والرشاشات الثقيلة. وليس هناك شك، في أن الخارجون عن القانون قد استعملوا كل ما لديهم من قوة، حيث استحال عليهم الهروب من كماشة القوات النظامية –وذلك في أثناء النهار على الأقل- فلم يبق أمامهم إذن أي خيار، فإما الدفاع وإما الموت. لقد شكلت هذه القناعة الحتمية للعدو محفّزا طبيعيا، فأصبح من الضروري –أمام هذا الوضع- إزاحة الخارجين عن القانون من مواقعهم، وذلك بفرض المواجهة (فرد لفرد)، في ظروف جدّ مأساوية.
إنّ سيل الرشاشات كان يتدفق على بعد ثلاثة أوأربعة أمتار، وينبغي أن تتخيل قليلا كيف عساه أن يكون هذا الاقتحام في أحراش علوها هو بقدر قامة الرجل؟ فهي لا تسمح بأي مشاهدة. فليس هناك إلاّ طلقات الرصاص تجيء أحيانا من الأمام، وأحيانا أخرى من الخلف. بل زفير الطلقات كان يأتي من كل جهة وصوب.
لقد وصل توتر أعصاب المقاتلين في هذه المعركة الطاحنة إلى أقصاه، فتم طلب التدخل الفوري للمدفعية الثقيلة والطيران، وذلك من أجل التخفيف عن جنودنا البواسل والسماح لهم باسترجاع الأنفاس، إلا أنّ اللّيل كان قد خيّم وكان يجب أن تتوقف المعركة.
فرصة اللّيل: أدرك الخارجون عن القانون، أن حظوظهم في الهروب أثناء اللّيل، عبر حصار جدّ مغلق، أصبح أمرا مستحيلا رغم معرفتهم الجيدة بأرض المعركة، ومعرفتهم بكل موقع شجرة.
عادت المعركة في الصباح الباكر من جديد بكل عنف وضراوة. والضباب ما يزال راصيا، فتمكن الخارجون عن القانون من وضع بعض المواقع المخندقة لتأمين هروبهم نحو غابة “أحفير” ودوار “تمكسالت”، وبذلك انتهت المعركة بصورة نهائية.
أما الحصيلة الأولية التي أعطيت هذا المساء، فكانت 64 قتيلا من الخارجين عن القانون8، فقد تم عدّهم والتعرف عليهم، أثناء عملية الفرز. وقد استرجعت أسلحة عديدة مختلفة ومتنوعة. أما من جهة القوات النظامية فنتألم على فقدان بعض الموتى وحوالي 15 جريحا (انتهى).
ليس هناك أدنى شك، في أن هذا التقرير الاستعماري الذي وصف معركة “الرحا”، لم يكن ليحيط بجميع جوانب هذه المعركة ومدى ضراوتها. وعلى العكس من ذلك فقد عمد إلى قلب الكثير من الحقائق وتزييفها، لأنه كان منشغلا قبل كل شيء بالإشادة بقوة الجيش الاستعماري وقدراته في القتال. وفي هذا، فقد جاء بادعاءات كاذبة ومغالطات واضحة. ورغم ذلك فقد أعطى وصفا دقيقا لحدة المعركة وشموليتها. هذا الوصف الذي أكدته شهادة بعض المجاهدين حضروا هذه المعركة الطاحنة، وما يزالون على قيد الحياة. حيث لخّصوا وصفها بقولهم؛ بأنها كانت يوما من الجحيم. فلم يكن هناك أثناء هذه المعركة أي تمييز بين أوقات النهار واللّيل. وقد أصبحت قذائف المدفعية وقصف الطيران كدويّ الرعد الذي لا يتوقف ولا يهدأ. فقد اختلط فيها المجاهدون بالعسكر الفرنسي اختلاطا كاملا. فأصبح الاشتباك في الغالب اشتباكا يواجه فيه كل فرد فردا آخر. في كل مرة تسمع تأوهات الرجال تتعالى، أو تجيء الصرخات من هنا أو هناك. كل ذلك وزهير الرشاشات يتدفق دون انقطاع وطلقات البنادق تصمّ الآذان. كل طلقة منها، كما قال أحد المجاهدين، لا تعرف أين سيكون مستقرها (فيك أو في غيرك). وذلك من شدة التشابك والاختلاط لقد أصبح من الضروري؛ بالنسبة للمجاهدين، بعدما تدخلت المدفعية الثقيلة والطيران، وقد استنجد بها “الكولونيل”، قائد الجيش الاستعماري، بسبب سقوط عدد كبير من عناصره، وإدراكه بأن قواته باتت تحت سيطرة المجاهدين، فقد أصبح من الضروري على المجاهدين والحال كذلك، أن يندفعوا وبدون تردد للاحتكاك والتداخل في صفوف العدو. الأمر الذي جعل المعركة تتخذ بعدا آخر، من الشدة والشراسة في القتال. وهكذا أصبح القصف العشوائي، سواء من طرف المدفعية أو الطيران، كثيرا ما يصيب عساكر العدو مباشرة، بدلا من المجاهدين. وذلك لكثرة جيش العدو وقلة عدد المجاهدين.
رغم أن هذه المعركة الشرسة لم تكن متكافئة، حيث كان عدد قوات الجيش الاستعماري يتعدى الألفين، بينما عدد المجاهدين حوالي ثلاثمائة مجاهد، أي الأغلبية الساحقة من المجاهدين الذين يشكلون القسم الخامس كانوا حاضرين. أقول رغم ذلك، فقد كان عدد القتلى من جيش العدو ما يزيد عن 130 عسكري. أما عدد الجرحى فيعد بالعشرات. وهذا أمر تؤكده المدة الطويلة التي استغرقتها سيارات الإسعاف العسكرية في عملية نقل الموتى والجرحى، من ساحة المعركة بعد انتهائها. حيث واضبت على ذلك ثلاثة أيام متتالية وبدون انقطاع. وفي المقابل فقد سقط من جيش “عقب اللّيل” أربعة وعشرين شهيدا، وأصيب حوالي خمسة عشر منهم بجروح مختلفة.
معركة عين البان (9-11أوت 1956(
لقد تمركزت مجموعات من جيش التحرير التابعين لتنظيمات “القسم الخامس”، منذ بداية شهر أوت 1956 في المنطقة الجبلية، التي تضم مرتفعات “موطاس” و”عين البان”، وهما منطقتان متجاورتان، تقعان على بعد حوالي ثلاثين كلم من جبال تلمسان من الناحية الغربية، بهما غابة كثيفة. كما يخترق المنطقة كلها الكثير من الوديان والشعاب. بالإضافة إلى المنحدرات العميقة. وهذا ما جعل منها مركزا منيعا تعودت مختلف فرق جيش التحرير أن تتردد عليها، إما بغرض الالتقاء والاتصال مع بعضهم البعض، أو لضرورات التخفي والتستر عن الأجهزة الرقابية الاستعمارية. إلا أن هذه الأخيرة، رغم ذلك وبناء على مراقبتها لهذا المنطقة عدة أيام متتالية، اكتشفت على إثر ذلك تواجد بعض الفرق من المجاهدين في هذه المنطقة. وهو الأمر الذي حشد له العدو الاستعماري ألفين (2000) عسكري لينطلقوا بشكل متسارع في عملية اكتساح واسعة النطاق، عمت جميع النواحي حتى بلغت نحو الاتجاه الغربي لجبال بني بحدل المشرفة على قرية “قدارة”. ونظرا لأنّ هذا الاكتساح بدأ وانطلق ليلا، فلم يتنبه إليه المجاهدون إلاّ عندما اصطدمت إحدى فرقهم ببعض الخطوط المتقدمة من وحدات جيش العدو. وكان ذلك في فجر يوم 13 أوت، مما أدى إلى اشتباك مفاجئ، كان سببا كافيا في تنبيه جميع فرق المجاهدين، والذين كانوا متفرقين ومنتشرين في أماكن مختلفة، بأنّ هناك زحف جرار لقوات الجيش الاستعماري قد عم جميع أنحاء المنطقة. منذ هذه اللحظة إذن؛ فقد بدأت مختلف فرق المجاهدين تدخل في اشتباكات متفرقة مع العدو، محاولة اختراق صفوفه والخروج من نطاق الحصار. لقد استمرت هذه الحالة من الاشتباكات، ولم تتوقف إلا بحلول اللّيل، الذي سهل على المجاهدين اختراق الحصار. وذلك عبر الوديان والشعاب الوعرة المسالك. وعلى العموم فقد كانت حصيلة هذه الاشتباكات هو قتل عشرة (10) مع بعض الجرحى في صفوف العدو. واستشهاد خمسة (5) من جيش التحرير.
في اليوم الموالي 14 أوت، اكتشف العدو بالناحية الغربية من “عين البان”، في الساعة العاشرة صباحا، تواجد “عقب اللّيل” وثلاثة من فرقته الخاصة من المجاهدين وهم؛ بختي عبد الرزاق، ومعروف عبد الرزاق وراشدي أحمد. وذلك على إثر اشتباكات بعض وحدات المجاهدين مجددا مع جيش العدو بمنطقة قريبة منهم. حين ذلك ركّزت القوات الاستعمارية على تضييق الحصار عليهم. وما هي إلا فترة قصيرة حتى أحاطتهم من جميع الجهات، وهي مدججة بمختلف الأسلحة الفتاكة. وبينما كانت هذه القوات تزحف على الأرض وتطلق الرصاص في كل اتجاه، كانت هناك ثلاثة عشر (13) طائرة حربية تغطّي سماءهم، وتتناوب على القصف. ولئن كان تركيز “عقب اللّيل” ورفقائه المجاهدين، في هذه الظروف العصيبة قد انحصر في محاولاتهم المستميتة لحماية الصحافي المصري ” السي حسين “9، الذي كان بصحبتهم وشاهدا على هذه المعركة، و رغم ذلك، فقد ابلوا بلاء حسنا للتصدي لجيش الاستعماري ومقاومته. فأرغموه على التوقف في الزحف نحوهم، تاركا المجال لغارات الطائرات وقصفها العشوائي. وهذا ما أعطى فرصة لهؤلاء المجاهدين، ليتمكنوا من الإفلات من قبضة العدو والخروج من منطقة الخطر. بعدما تفرقوا وسلكوا الشعاب والمنحدرات الضيقة.
إلا أن الطائرات الاستكشافية تمكنت مرة أخرى من اكتشاف “عقب اللّيل”. وكان هذه المرة بمفرده، وهو متجها عبر الغابة الكثيفة التي تمتد إلى أقصى المرتفعات المشرفة من الناحية الشرقية على قرية قدَّارة” “عين بودواو”، وهي أرض جبلية تتوسط بين “بني بحدل” و”الكاف”. وهكذا انفردت الطائرات الحربية بـ”عقب اللّيل”، وأخذت تلاحقه بالقصف من أمامه و من خلفه، ومن كل مكان. فأصيب على إثر ذلك بجروح وحروق مختلفة. ومن ذاك، فقد اخترقت إحدى الشظايا أذنه، وأصابت أخرى يده. وظلت هذه الطائرات تلاحقه، وكأنها تعرفت على شخصيته، إلى أن اختفى عن مراقبتها، وفقدت الطائرات أثره بالمرة. حين ذلك زادت من تكثيف قصفها في كل الاتجاهات دون جدوى، وهو الأمر الذي أفزع سكان قرية “قدارة”، وقد كانوا يشاهدون ذلك الهول من القصف في منطقتهم الجبلية. وما أن اقترب كل ذلك من قريتهم حتى خرجوا هاربين بنسائهم وأطفالهم، وتوجهوا نحو وادي قدارة، واختبأوا بالمغارة الصفراء. وهي مغارة تعود إلى ما قبل التاريخ، تتسع للعشرات من الأفراد. وبينما هم كذلك محشورين ومرعوبين داخل هذه المغارة إذا بـ”عقب اللّيل” يدخل عليهم وهو منهك القوى وممزق الثياب والدماء تنزف من أنحاء جسمه، فبادرهم بالقول:«…لا عليكم، ولا تخافوا فالطائرات قد فقدت أثري… ولا تعرف بأنني أخذت هذا الاتجاه… ومن الأفضل أن تبقوا في هذا المكان حتى تهدأ الأمور وتنصرف الطائرات».
غادر “عقب اللّيل” بعد ذاك هذا المكان مباشرة متوجها صوب جبال “بوسدرة” ليصل فيما بعد إلى مدينة “وجدة” المغربية، أين تقيم جماعة وجدة وتستريح، بقيادة بوصوف عبد الحفيظ، وهواري بومدين، هذان الرجلان اللذان كان لهما في نفس هذه الظروف العصيبة من مواجهة الجيش الاستعماري، كان لهما أقول متسعا من الوقت، ومجالا فسيحا من الأمن والاستقرار للتفرغ والانغماس في حبك مؤامرة الغدر. كانت هي المؤامرة الدنيئة التي استشهد على إثرها “عقب اللّيل”. ولئن واجه “عقب اللّيل” القوات الاستعمارية في معارك طاحنة، وعجزت أن تنال منه، رغم ما كانت تمتلكه من وسائل الاستخبارات والدمار. ذلك لأنها كانت قبل كل شيء، مواجهة رجال ضد رجال. الغلبة فيها لمن تحلى بالشجاعة والبطولة، وكانت قضيته تقوم على مبادئ صادقة وأهداف عادلة.فإنّ مواجهة بوصوف وبومدين له ما كانت لتقوم إلا على المؤامرات والدسائس والطعن من الخلف. وهي صفات دنيئة ظلت تميزهما خلال الثّورة في مدينة وجدة، وما بعد الثّورة في الجزائر المستقلة.
ولعل التقرير الذي كتبه “عقب اللّيل” حول معركة “عين البان” وبعث به إلى قيادة الثّورة، لعله يشير ويتضمن بطريقة مباشرة طبيعة المؤامرة التي كانت تحاك ضده. كما فيه إشارة إلى تلك الوسائل الدنيئة التي اعتمدوها واتخذوا منها أسلوبا وطريقة للتآمر والغدر.
تقرير “عقب اللّيل” حول معركة عين البان (11-8-1956)10
جبهة التحرير الوطني
القسم الخامس
الموضوع: تقرير رئيس القسم
-يوم الأحد 11 أوت 1956 دخلت القسم الخامس مصاحبا للسي حسين الصحافي المصري.
-يوم 13 أوت انتقلنا معه إلى عين “بودواو”، لم يستطع السي حسين مواصلة السير، وبعد عناء كبير، كاد يكلفنا حياتنا تمكنا من التحرر من الحصار، وكان ذلك نحو منتصف النهار.
في المساء أرسلت الصحافي إلى القيادة، لأنه كان يعيقنا في القيام بعملنا، حيث لم يعد بإمكانه متابعة السير، فالتحق بالقيادة.
في يوم الغد 14أوت حوصرنا من جديد في بني بحدل، بعد اشتباك قصير، وقع على بعد بضعة كيلومترات منا، مع إحدى فرقنا.
اكتشفتنا طائرة العدو، نحو الساعة العاشرة صباحا فحصرنا بصورة مضيّقة، وبعد ذلك، أخذت الطائرات المقاتلة، والتي كان عددها 13 تقنبلنا مباشرة، فأصبت بجروح في أحد الاشتباكات حيث كنا أربعة (4) مجاهدين ضد حوالي 2000 من عسكر العدو.
اخترق رصاص المقاتلات قبّعتي وسروالي، وتمكنا في المساء من التملص من هذا الحصار، وكنّا أشبه بالأموات.
التحقت بالمكان الذي كنت متجها إليه (المغرب)، وأشعرت القيادة بوجودي في المكان، والذين تحصلوا تقريري.
انتظرت استدعائي، من أجل تقديم عرض حال عن وضعيتي الصحية، فلم أتوصّل بأي استدعاء، وعكس ذلك، فلم يقوموا إلاّ باستواب المناضلين (التاعبن للقسم) عن شخصيتي. وكان همّهم هو معرفة؛ هل السي مختار غادر أم لا؟ وكانوا يسألون حولي وكأنّي جئت للفسحة.
الحالة في وجدة : عند دخولي وجدة، كلّفوا من يراقبني ويتتبع تحركاتي من أجل معرفة أعمالي وتنقّلاتي.
في وجدة، تعرض الكثير من مناضلي الخلايا الحاضرين إلى الضرب، مثل دالي يوسف رضوان، وذلك منذ حوالي ثلاثة أشهر.
-ديدوح؛ اضطر إلى بيع صياغة زوجته، من أجل إطعام أولاده من الجوع، ثم تمّ توقيفه وضربه في يوم 20أوت 1956.
-عطار؛ أوقف وتعرّض للضرب يوم 28أوت 1956.
(انتهى)
FRONT ET ARME DE LIBERATION
NATIONALE ALGERIENNE
5ème secteur
Objet : Rapport du chef du 5ème secteur
1-Le dimanche 11 Août 1956 je rentrai au 5ème secteur en compagnie de Si Hocine journaliste Egyptien
Le 13 Août nous fûmes avec le reporter à Aïn Boudaoud
Si Hocine ne pouvait pas marcher après plusieurs sacrifices qui faillirent nous coûter la vie, nous fûmes libérer de cet encerclement vers l’après midi. Le soir j’ai envoyé le journaliste au commandement car il nous gênait dans nos actions, il ne pouvait pas marcher. Il rejoignit le commandement. Le lendemain 14 Août fûmes de nouveau encerclés à Béni-Bahdel. Après un bref accrochage que fit quelques kilomètres de nous une de nos section, nous fûmes repérés vers 10h du matin par des avions. Nous fûmes encerclés étroitement et bombardés par des avions de chasse qui étaient au nombre de 13. Je fus blessé après un accrochage car nous étions 4 contre 200 soldats ennemis.
Mon chapeau fût criblé de bales par les bombardiers ainsi que mon pantalon. Vers le soir nous fûmes libérés de cet encerclement. Nous étions à moitié morts. Je regagnai le Maroc. Arrivé à destination, j’ai signalé ma présence dans cette région au commandement, qui reçu mon rapport, j’ai patiné pensant qu’on allait me convoquer pour se rendre compte de mon état de santé. Je ne reçu aucune convocation mais plutôt ne faisant que questionner les militants à mon sujet, ils étaient chargés d’enquêter si Mokhtar était parti ou non.
Ils questionnaient après moi comme quelqu’un qui serait venu se promener.
II- La situation à Oujda : Quand je suis entré à Oujda ils chargèrent des sentinelles de me filet pour voir mes attitudes et mon travail.
III- A Oujda : Ils ont bastionné plusieurs de mes cellulaires:
Dali Youcef Redouane, il y a environ trois mois
Didouh : allait vendre les bijoux de sa femme pour nourrir ses enfants qui crevaient de faim, il fût arrêté puis bastionné 20/08/1956.
Attar : fût arrêté puis bastionné le 28/08/1956.
Tous
IV-Stop…
-
صـــورة للـــتـــقــــريـــر–
1 المسبّلون: هم مناضلون يرافقون المجاهدين قصد تدريبهم وإعدادهم للالتحاق بالمجاهدين.
2 لقد أشار إلى هذا الرشاش وقيمته السيد؛ عبد الكريم حساني في كتابه:Guérilla sans visages، ص 46.
3«وتلمسان بصبرة صبرها جاءها المخـــــتار يـخـتـال، وبرباطة لؤلؤة في غربها يأتيها نهر في القبلة جلجال»
قيلت هذه الأبيات في سجن سركاجي بالعاصمة، عندما سمع أحدهم ما فعله “عقب اللّيل” المختار بجيش الاستعمار بوادي برباطة ، صبرة
4 L’ECHO D’ORAN
5 Turenne : هي صبرة حاليا.
6 المختار بوزيدي؛ هو عقب اللّيل.
Dragon7
8 الخارجون عن القانون والمتمردون، والفلاقة؛ هي أسماء مترادفة كان ينعت بها الاستعمار الفرنسي الثوار والمجاهدين.
9 السي حسين: هو صحافي مصري، اسمه الحقيقي؛ جميل عارف محرر بمجلة آخر ساعة، دخل الجزائر عن طريق تونس لينجز تحقيقا حول الثّورة الجزائرية. وقد تابع هذه المهمة عبر تنظيمات الاتصال للثورة إلى أن وصل إلى المنطقة الحدودية، الغربية. عند ذلك وجد نفسه في القسم الخامس، الذي يقوده “عقب اللّيل”. بل وجد نفسه وسط معركة كاد أن يقتل فيها، لولا استماتة المجاهدين وشدة مقاومتهم، حيث تم تهريبه بصعوبة بالغة. والمهم في هذا فقد عبر هذا الصحافي المصري الشجاع الثّورة من شرقها إلى غربها، ولم تتح له فرصة معاينة معركة بصورة مباشرة، بين المجاهدين والجيش الفرنسي، إلا عندما كان مصاحبا لـ “عقب اللّيل”.
10هذه ترجمة للتقرير الذي كان مكتوبا بالآلة الكاتبة والحروف اللاتينية (اللغة الفرنسي)
المكيدة والاستشهاد
بعدما تمكن “عقب اللّيل”، بصعوبة كبيرة من الإفلات من قبضة الجيش الاستعماري ، في معركة “عين البان”، التحق على إثر ذلك بمدينة وجدة، وهو مصاب بجروح مختلفة. وفي هذه الظروف بالذات، كانت له جماعة وجدة بالمرصاد، بقيادة كل من بوصوف ( السي مبروك ) وبومدين، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ومن المعلوم أنّ هذه الجماعة وقد استقر بها الأمر والمقام بهذه المدينة، بعيدا عن أهوال الثّورة ومخاطرها. بعدما نقلت وحوّلت إليها قيادة الثّورة بالغرب الجزائري، في بداية عام 1956، فلم يبق أمامها حينئذ سوى وضع نظام استخباراتي بوليسي، يكفل لها البقاء والاستقرار في هذه المدينة، وينفّذ لها ما تضعه من دسائس ومؤامرات، وما تخطط له من أساليب الغدر والطعن من الخلف، ضد كل مجاهد يناهضها أو يعارضها في أمر هروبها من جحيم الثّورة. أو يتصدى لقيادتها وينتقد سلوكاتها وتصرفاتها المشبوهة، كالتخلّي بطرق ملتوية عن المشاركة الفعلية الميدانية في الثّورة، والعبث بأموال الثّورة واستعمالها لأغراض شخصية. أو يستنكر فيها مظاهر التسكع والعربدة في شوارع المدينة، لا سيما و أنّ كلّ ذلك كان يتم باسم الثّورة، وتحت شعار تطبيق “شرعية الثّورة”. وبطبيعة الحال، فإن هذه الشرعية المشبوهة والمزورة، لم يكن مصدرها من داخل الثّورة، كما قد يتبادر إلى الذهن أو يتوهم ويدّعي البعض، وإنما من خارجها وبعيدا عن ميدانها. والحال فإنّ “عقب اللّيل”، انطلاقا من مبادئه الثّوريّة وخصاله الوطنية لم يكن ليقبل بوجود قيادة ثورية عسكرية، تميز نفسها عن عامة المجاهدين. فتنغمس بعيدا عن مخاطر الثّورة وجحيم المعارك، في حياة المكاتب والعربدة والمؤامرات. بينما تدفع بالآخرين إلى القتال والموت. ومهما يكن من أمر، فإن الصراع الذي بلغ أقصاه بين “عقب اللّيل” من جهة، وقيادة جماعة وجدة من جهة ثانية، كانت له ظروفه وأسبابه الفعلية الحقيقية. خاصة تلك التي تتعلق بطريقة مشاركتهم في العمل الثوري وضرورة تجسيد ذلك في الميدان. فضلا على أنه صراع كان ينمّ منذ البداية عن مواقف متباينة ومتناقضة حول الكثير من القضايا والأمور التي كانت تتعلق بمقتضيات تسيير الثّورة في الناحية الحدودية الغربية. مثل محاولات تمييز فئة قيادية تحتكر السلطة الثّوريّة، وتقتصر مهمتها على إصدار الأوامر، وتنأى عن أي مشاركة فعلية، أو مباشرة في الأعمال الثّوريّة. ناهيك عن تلك الخلافات حول مشاكل التسليح والاتصال والتموين. التي كان يرى فيها “عقب اللّيل”، من الضروري أن تتم مباشرة، على مستوى الأقسام، بدلا من وساطة الفئة القيادية المزعومة. فقد أصبح واضحا بأن قيادة جماعة وجدة باتت تسعى بشتى الطرق والوسائل (كالتعسف في استغلال سلطة الثّورة) من أجل تكريس الأمر الواقع الذي أصبح يتمثل في التسيير الانفرادي لقضايا الثّورة من مدينة وجدة، وهو تسيير (إداري) متخاذل جاء معارضا ومناقضا للحقائق الثّوريّة في الميدان، لأن توجهات هذا النوع من التسيير كانت منحصرة أساسا في احتكار المسؤوليات القيادية والعمل على الاحتفاظ بها دون أدنى منافسة أو مغامرة أو مواجهة لمخاطر الثّورة. والحال فإن المواجهة هذه والمخاطرة حسب مواقف “عقب اللّيل” هي أساس نجاح الثّورة. فينبغي على أي ثائر إذن، خاصة إذا كان عسكريا (كجماعة وجدة)، أن يتحلى ويلتزم بها. ومن خلال ذلك فقط يمكن التمييز بين رجال الثّورة الحقيقيين وأولئك الجبناء المتخاذلين.
والمهم في كل ذلك، هو أنّ قيادة وجدة في ظل هذه المعارضة وهذا النقد، الذي أصبح يثيره عقب اللّيل”، من منطلق مواقفه الثّوريّة الصارمة. أقول أصبح لديها اليقين بأنّ هذا الرجل بات يشكّل عليها خطرا داهما. أولا– في استمرار وجودها كقيادة في مدينة وجدة، وثانيا – في كل ما يتعلق بمؤامراتها ومخططاتها للإنفراد بمراكز القوى في نظام الثّورة. تمهيدا للسيطرة على السلطة والنظام في الجزائر المستقلة مستقبلا.1
لقد كان شعورهم المتزايد بخطورة مواقفه، تجاه جميع هذه المخططات والمؤامرات نابعا من حقيقتين:
تعاظم مكانته الثّوريّة، وتزايد شهرته بين كافة المجاهدين والمناضلين. بل وبين عامة الناس. أينما ذهب وأينما حل إلاّ وكانت له مكانة وشأنا. كل ذلك بسبب نجاحاته المتوالية في العمليّات التي كان يقود فيها المجاهدين ضد الجيش الاستعماري.
مواجهته لهم كقيادة بمدينة وجدة، ومطالبتهم بشكل مستمر، بالدخول إلى أرض الثّورة والمعركة. حيث من المعلوم أنّ “عقب اللّيل” كان الرجل الوحيد من ضمن القيادات الثّوريّة بالمنطقة، ومن ضمن جميع رؤساء الأقسام آنذاك، الذي وقف في وجه هذه الجماعة، وطالبها بإلحاح بالمشاركة الفعلية في الثّورة. حيث تحضنها الوديان والجبال داخل الجزائر، وليس من خلال هذه المشاركة الوهمية، من مدينة وجدة. أين طغت على حياتهم العربدة والتسكع والعبث بأموال الثّورة.
ويمكن القول في هذا الموضوع؛ بأنّ تصدي “عقب اللّيل” لقيادة هذه الجماعة بلغ درجة من الحدة والتوتر، بحيث لم تعد تربطه بها أي علاقة مباشرة. فقد أصبحت هذه الجماعة بالنسبة إليه مدعاة للشكوك ومصدرا للتهاون والتلاعب بالثّورة ومبادئها. فقد باتت تصرفاتها المشينة، وأحيانا مواقفها الغامضة تضر بمعنويات المجاهدين، وتؤثر سلبا في تأجج الحماسة الثّوريّة لديهم. وقد زاد هذا التوتر حدة، خاصة بعد وقوع حادثتين غامضتين:
تتعلق الحادثة الأولى بقتل جماعي لمجموعة من الشباب التلمساني2 في ظروف غامضة. لقد كانوا إلى وقت قريب مناضلين في “حركة انتصار الحريات الديمقراطية” فقام “عقب اللّيل” بتجنيدهم في صفوف الثّورة. ولأنهم كانوا على مستوى من التكوين والتعليم، فقد تم إرسالهم إلى قيادة وجدة، لتنظر في كيفية إدماجهم في إحدى تنظيمات الثّورة. إلا أن هذه القيادة أخذت قرارا بقتلهم جميعا، ولأسباب مازالت مجهولة.
أما الحادثة الثانية؛ فتتمثل في تلك الرسالة التي بعث بها “بوصوف” إلى “عقب اللّيل” عن طريق عناصر الاتصال، في شهر أبريل من عام 1956. وقد كان فحواها هو دعوته إلى التوقف والكف نهائيا عن القيام بعمليات عسكرية وثورية ضد جيش العدو. وقد كتب له يقول بأن القيادة ( المتمركزة آنذاك في مدينة وجدة) قد أخذت قرارا بأن تتولى هي بنفسها بالإشراف الكامل على مثل هذه العمليّات. مثل التخطيط والإعداد لها، إلى تحديد المكان والزمان، أي التحديد والتعيين المسبق لأي عملية ثورية أين ومتى ستكون.
وبطبيعة الحال فالنتيجة الحتمية لمثل هذه القرارات الغامضة – كما فهم ذلك “عقب اللّيل”- هو أن تصبح التنظيمات الثّوريّة الميدانية (نظام الأقسام) في حالة انتظار وترقب لما يجيئها من وقت لآخر من أوامر. وعليه فما على رؤساء الأقسام والمجاهدين عامة داخل التراب الوطني، سوى التمركز في أماكنهم ثم ترقّب ما سيجيئهم من أوامر وتوجيهات من مدينة وجدة. ورغم أن مثل هذه الرسالة دون شك، قد تلقاها جميع رؤساء الأقسام (وكانت بمثابة اختبار أولي لمدى استعدادهم للخضوع والخنوع لقيادة مدينة وجدة) فلم يكن لهم تجاهها أي اعتراض أو رد فعل يذكر، رغم أن مثل هذه الأوامر جاءت مخالفة لواقع حرب العصابات و خلافا لذلك، فإنّ “عقب اللّيل” من جهته، قد انفعل لهذا الأمر انفعالا شديدا، ورفض هذه التعليمات جملة. حيث ارتأى فيها ما ينمّ عن المقاصد الدنيئة و النزعة إلى التآمر والطعن من الخلف. ومن ذلك فرض حالة الأمر الواقع لقيادة وجدة وهي قيادة رتبت ظروفها بحيث تكون في منأى عن جميع مخاطر الثّورة. كما أنه لا شكّ قد أدرك قبل غيره، ما يمكن أن يترتب عن ذلك من سبل للخيانة وأبعادها الخطيرة. قد تكون هي المتوخاة بالذات من تلك الإجراءات التي جاء تحديدها في رسالة بوصوف. خاصة وهو الرجل (عقب اللّيل) الذي لطالما راودته شكوكا بأن هناك بعض الاتصالات السرية كانت تبعث من مدينة وجدة، عن طريق “اللاسلكي”، وتصل سواء عن طريق الخطأ أو القصد، إلى المركز الاستعماري الكائن بسيدي مجاهد3. كل ذلك إذن هو ما دفعه إلى الرد برسالة وجّهها إلى “عبد الحفيظ بوصوف”، كانت شديدة اللهجة وقاسية في كلماتها. ومما جاء في هذه الرسالة ما فحْواه؛ «… إذا كنت ترغب وتريد التخطيط للعمليات ضد جيش العدو ثم تحدد كيف يجري تنفيذها، في الوقت والمكان الذي تريد؛ فما عليك إذن سوى المجيء إلى أرض المعركة والقيام بها بنفسك. بدلا من التقوقع في مدينة وجدة والانغماس في المؤامرات.. أما فيما يخصني ويخص المجاهدين، فنحن نقيم في ميدان المعركة، وأدرى بما يجب ويتناسب من عمليات ثورية ضد جيش العدو…».
بهذا الوضوح وبهذا الموقف الصارم واجه “عقب اللّيل” قيادة وجدة، التي لم تعد تتردد منذ ذلك الحين، في حبك الدسائس ووضع المؤامرة تلو المؤامرة من أجل اغتياله. وهو الرجل الذي أصبحت مواقفه الثّوريّة تسبب لها الكثير من الحرج والمضايقات. خاصة استمراره في مطالبته لها بضرورة الدخول والبقاء في أرض الثّورة، أين تجري معركة التحرير. هذا الأمر الذي أخذ يتنامى ويصل إلى مسامع الداني والقاصي، وأصبح في ذات لوقت مصدرا لإثارة الوعي لدى كافة المجاهدين، عبر مختلف الأقسام، بحقيقة تخاذلهم وهروبهم إلى الخارج.
وإذا كانت هذه القيادة قد لجأت في مواجهتها لمطالب “عقب اللّيل” بتصرفات غامضة وملتوية أحيانا، ودنيئة حافلة بالغدر أحيانا أخرى، تمثلت في محاولة العمل على عزله والكف عن إمداد جنوده بالسلاح والعتاد ت ذأت
الحربي، ثم في محاولة قتله. فإن رد فعله تجاه هذه المؤامرات –كما هو معروف- كان غاية في العمل الثوري والصرامة. إذ عمد في أول الأمر إلى الامتناع عن إمدادهم بأموال الثّورة. والتي كانت تجمع عن طريق الاشتراكات بوسائل مختلفة4. كما لجأ من جهة أخرى إلى تكوين شبكة سرية بفاعلية ملحوظة. تتولى جلب العتاد الحربي عن طريق مدينة الناظور المغربية. هذه المدينة التي انتقل إليها بنفسه، من أجل هذا الغرض عدة مرات5. حيث كان يتصل أثناء ذلك بأشخاص سريين لهم علاقة بهذه الشبكة، التي أخذت تحوّل إلى الجبهة الداخلية من فترة لأخرى، وفي نطاق تنظيمات “القسم الخامس”، كميات هامة من المعدات والوسائل الحربية.
بالإضافة إلى كلّ ذلك، فقد حاولت قيادة وجدة اغتيال “عقب اللّيل” بشكل مباشر حينما كلفت أحد عناصرها6 بهذا الأمر، فتربص له وأطلق عليه الرصاص، وهو يهم بالخروج من مستشفى “ليستو” بمدينة وجدة، في أوائل شهر أوت 1956. إلا أنه لم يتمكن من إصابته. لقد كان من عادة هذا الرجل الثوري زيارة المرضى الجزائريين والجرحى من المجاهدين بهذا المستشفى كلّما قدم إلى هذه المدينة لسبب أو لآخر. وقد عرف عليه بأنه كثيرا ما كان يزودهم بكل ما كانوا يحتاجون إليه، من لباس ونقود وغير ذلك. وتلك كانت صفة من صفاته الحميدة. في الوقت الذي لم تكن فيه قيادة جماعة وجدة تكترث لأمر هؤلاء، رغم إقامتها بصورة دائمة في هذه المدينة. ويمكن القول؛ بعد كل هذه الأحداث المشوبة بالغدر والدسائس والطعن من الخلف، والتي جند لها كل من بوصوف وبومدين جميع عناصر الاستخبارات والشرطة السرية، وهو الجهاز البوليسي الذي وضعه بوصوف في مدينة وجدة، وكانت مهمته تنحصر – كما هو معروف- في عمليات الخطف والقتل وإرهاب وتهديد كل من يتجرأ من ضباط الثّورة وقادتها على نقد قيادة وجدة، أوعدم مجاراتها والخضوع لمقرراتها. أقول بعد كل هذه الأحداث، ورغم استخدام جميع هذه الوسائل الإرهابية، تحت ستار تطبيق الشرعية الثّوريّة (من مدينة وجدة)، التي تقع فيما وراء الحدود الجزائرية، بعيدا عن ميدان الثّورة أين توجد بحق “الشرعية الثّوريّة”. فرغم ذلك لم يتمكنوا من اغتيال “عقب اللّيل”. فالرجل كان من الثوار الأبطال الذي يصعب مواجهتهم مواجهة مباشرة. فلم يبق أمامهم والحال كذلك، سوى خديعة استدعائه لحضور “الاجتماع” المزعوم. تحت إشراف وضمانة السي “الطيب الوطني”، وهو محمد بوضياف. ومن المعلوم أنّ حبك هذه المؤامرة قد ارتكز في الأساس على رسالة سرية، كان “عقب اللّيل” قد بعث بها في خضم هذه الأحداث بشكل مباشر إلى القيادة الوطنية للثورة التي أصبحت تعرف بلجنة التنسيق والتنفيذ. وحيث أن “محمد بوضياف” كان متواجدا في أثناء ذلك بالمغرب، فقد تسلم هذه الرسالة التي كانت تصف وضع الثّورة المتردي في المنطقة الحدودية الغربية، وتتعرض بالنقد لقيادة وجدة وتسلطها وتماديها في التمركز في هذه المدينة، ثم العبث بأموال الثّورة وتبذيرها في قضايا خاصة. كما أشارت إلى بعض جرائم الخطف والتنكيل والقتل، التي طالت الكثير من المناضلين في ظروف غامضة. والمهم في كل ذلك، فقد طالب “عقب اللّيل” في هذه الرسالة بعقد اجتماع تحت إشراف عضو من القيادة الوطنية للثورة، وبحضور جميع الأطراف. حيث كان يأمل مواجهة قيادة وجدة، وفضح مؤامراتها وتصرفاتها الغامضة والملتوية. وقبل كل شيء جعلها تتراجع وإرغامها على الالتحاق بالثّورة داخل الجزائر. وقد شرح بأن هذا الوضع الغير الطبيعي، أصبح يشكل خطرا على مسيرة الثّورة في هذه الجهة من الوطن. خاصة ما كان يتمثل في توجهات وممارسات النظام الاستخباراتي الذي وضعه “بوصوف”. حيث كانت قاعدته الأساسية لا تقوم على محاربة الاستعمار وملاحقته، وإنما تقوم على أهداف أخرى، وتتمثل في تنفيذ المؤامرات وصناعة الغدر وتلفيق التهم بوسائل دنيئة، من أجل القضاء على كل من تسوّل له نفسه معارضة أو الوقوف في وجه قيادة وجدة في هذا الأمر أو ذاك.
ولعل الأمر المثير للتساؤل في كل هذا. هو أن موقف “بوضياف” ورد فعله تجاه هذه القضية لم يكن في مستوى مقام مسؤوليته الثّوريّة الوطنية. من نزاهة وبعد نظر وتحمل للمسؤولية. وبدلا أن يكون ملتزما بالصدق والأمانة في معالجته لأسباب هذه الصراعات والخلافات، مهما كانت طبيعتها وحدتها، فإنه خلافا لذلك، فقد انساق منذ الوهلة الأولى وراء ذاتيته المتطرفة، وأقحم نفسه كطرف متحيز في الصراع. عوض أن يكون بحكم مسؤوليته محايدا ونزيها. وهو موقف لعله تكوّن لديه من منطلق إحساسه وشعوره الذاتي بأنه هو الآخر قد تنطبق عليه بصورة أو أخرى، مثل هذه الانتقادات التي وردت في رسالة “عقب اللّيل”. حيث الواقع يؤكد أن الرجل ما كانت طموحاته وأطماعه لتختلف عن طموحات وأطماع قيادة وجدة. كالرغبة الهوجاء وبأيّ وسيلة كانت لتولي المراكز الأولى والمتفردة في نظام الثّورة. وذلك رغم ادعائه في مناسبات كثيرة، بل وادعاء الجميع، شعار القيادة الجماعية. أو لعل موقفه هذا جاء مجرد تعبير عن نزعة جهوية مقيتة7. لطالما كانت تغذّي وتختفي وراء معظم الصراعات والمؤامرات، التي كانت تنشب بين العناصر القيادية المختلفة داخل الأنظمة الثّوريّة. وظلت كذلك حاضرة في نظام السلطة ما بعد الثّورة. أو لعله كان مدفوعا بأطماعه في أن ينال مؤازرة وتأييد جماعة وجدة، والمتمثلة على الخصوص في شخص “بوصوف” ومكانته، ضد أعدائه ومناوئيه في مراتب المسؤولية. من أمثال أحمد بن بلة وعبان رمضان وغيرهما، حتى لو كان ذلك من خلال المشاركة والتورط في مؤامرة أدت إلى جريمة نكراء، ضد بطل من أبطال الثّورة، شهد له جيش الاستعمار بقوة المقاومة والشجاعة. بل وعجز أن ينال منه، رغم تعدد المواجهات وحدة المعارك.
بهذه الصورة القبيحة إذن وبهذا الأسلوب من الغدر تعامل “بوضياف” مع هذه القضية. فأسرع بالاتصال بقيادة وجدة، وأطلعها على فحوى الرسالة، ليتفقوا جميعا على إثر ذلك على تدبير مؤامرة اغتيال “عقب اللّيل” والتخلص منه. وقد تمثلت خطواتها أولا، في إبلاغه بقبول “بوضياف” وقيادة وجدة بعقد “الاجتماع” الذي طالب به، وكان يرغب فيه. وثانيا؛ بتحويل هذا “الاجتماع” الظاهري إلى محاكمة وهمية. وثالثا استدراج الأحداث إلى عملية الاغتيال وبحضور وشهادة الكثير من العناصر القيادية في الثّورة.
وقد جاء ترتيب كل ذلك في السياق التآمري الذي تنطبق عليه مقولة الإمام علي:«حقّ أريد به باطل». بهذه الكيفية انخذع وتقبل “عقب اللّيل” هذا الاجتماع (المؤامرة). وقد كان حرصهم شديدا بأن يُرتب ويجري كل ذلك في السياق الطبيعي المألوف والمتوقع. ممّا لا يسمح بإثارة أي شكّ ولا ظن من الظنون. هكذا كان “السي مبروك” شديد الحرص على أن توضع وتطبق خطوات هذه المكيدة وفق إجراءات بالغة الدقة. وهو الشخص المحنك والمقتدر في حبك وإدارة المؤامرات بدون منازع. خاصة وأنه كان على معرفة تامة بطبيعة “عقب اللّيل”. في شجاعته وشدة ردود فعله.
ومن هذا المنطلق بالذات، وحتى لا تثار لديه أي شكوك. فقد عيّنوا له مكان الاجتماع بمنزل يملكه واحد من أعزّ وأخلص أصدقائه، وهو”عبد الرحمان بلخديم”. كان مناضلا وله عزوة ومكانة في النشاط الثوري. لدرجة كان هو أول مناضل يزوره ويلتقي به “عقب اللّيل”، كلّما جاء إلى مدينة وجدة. وهذا ما ينم على شدة الارتباط التي كانت قائمة بين الرجلين.
تلكم إذن هي الخديعة الأولى، التي جعلته يطمئن إلى المكان الذي استدرجوه إليه. ورغم ذلك فلا بد من الإشارة في هذه النقطة، بأنه من الحقائق الثابتة أنّ “عقب اللّيل” بعد أن تم إخباره بمكان وموعد “الاجتماع ” المزعوم. وقد كان ذلك أواسط شهر أوت 1956. أي بعد بضعة أيام فقط من التحاقه بمدينة وجدة، على إثر إصابته بجروح وحروق في معركة “عين البان”، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فإنه حين ذلك؛ بادر بالاتصال بنائبه العسكري وهو “الوهراني أحمد” عن طريق نظام الاتصال. وكان هذا الأخير آنذاك متواجدا في منطقة “موطاس” فطلب منه الالتحاق به فورا مصطحبا معه المجاهد الشاب “بن بلال علي”8. وعند التحاقهما بمدينة وجدة وجداه ينتظرهما في منزل المناضل “خليل محمد”. حيث كان هذا الأخير وشخص آخر حاضرين معه في نفس المكان. وبعد أن استفسر من نائبه العسكري عن الوضع في ساحة المعركة، قام بتقديم ذلك الشخص الذي كان متواجدا معهم قائلا:«…هذا ضابط مغربي، وهو هنا من أجل المساعدة، ونحن بحاجة إليه في بعض القضايا…»، وأعتقد أنه كان يشير إلى موضوع المساعدة في جلب الأسلحة والعتاد الحربي. وبعد فترة قصيرة، ولم يبق في المكان سواه “عقب اللّيل” والوهراني أحمد، وخليل محمد، عند ذلك قام بسحب حقيبة ضخمة من تحت السرير الذي كان يجلس عليه، ثم قام بفتحها ليرى الجميع ويشاهد بأنها مليئة بالأموال. بعد ذلك قال بالحرف الواحد:«…هذه الأموال ملك للشعب الجزائري، فلا يعلم بوجودها إلا الله ونحن الثلاثة. وحيث أني ذاهب بعد قليل للاجتماع مع السي الطيب الوطني (محمد بوضياف) فإذا حصل شيئا ما ولم أرجع. فهذه الأموال أمانة الشعب الجزائري ستبقى تحت مسؤوليتكم…»9.
وإذن فمن خلال هذا الموقف الواضح، ومن منطلق إشارات هذه الكلمات ومقاصدها والتي أوصى بها أصحابه، يظهر بوضوح بأن “عقب اللّيل”، كان يحمل في نفسه شيئا من الشك وكان لديه إحساس باطني بوجود خديعة في هذا (الاجتماع). ولعل السبب في ذلك يعود إلى تجربته مع هؤلاء، وما عهده منهم من مؤامرات وغدر. ورغم ذلك كله فقد ذهب “عقب اللّيل” ليحضر هذا “الاجتماع” المؤامرة. دون تردّد ولا تراجع. وتلكم صفة من الصفات البارزة (وهي قاتلة)، يتسم بها جميع الأبطال أهل الشجاعة والإقدام. فقد يأتيهم شعور قوي وإحساس باطني بوجود خديعة وغدر في الأمر الذي هم مقبلين عليه، ومع ذلك فلا يتراجعون ولا يتقهقرون. ومن المعلوم فقد اصطحب معه رفيقه في الجهاد “بختي عبد الرزاق”، الذي أصبح لا يفارقه. خاصة في الأشهر الأخيرة، في أي ظرف من الظروف. وما أن خطا الخطوات الأولى وهو يهم بالدخول، حتى وقع عليه هجوما مباغتا. حيث انقض عليه من كل مكان، عناصر من تنظيم الاستخبارات. وهم جماعة كوّنهم وروّضهم “بوصوف” في مدينة وجدة، للقيام بمثل هذه الأعمال الدنيئة. وبطبيعة الحال فلم يتركوا له أي فرصة للدفاع عن نفسه. وقد كان تركيزهم دون شك في هذا الهجوم المباغت موجها إلى نزع سلاحه، الذي كان من عادته دائما إخفاءه تحت جلبابه. وهو الأمر الذي كانوا على معرفة جيدة به، ورغم هذا فقد تمكن من الانقضاض على أحد أفراد العصابة وكاد أن يقتله خنقا، لولا ما تلقاه حينها من ضربات من الخلف بل ومن كل جهة. كانت ضربات عنيفة قاسية على مستوى الكتفين والرأس ليسقط على إثر ذلك فاقدا لوعيه. وفي خضم هذا المعترك كان “عبد الرزاق” رفيقه قد تمكن من سحب مسدسه ليقتل أحد المهاجمين، قبل أن ينقضوا عليه بكل همجية من جميع الجهات. وعندما تمكنوا منه قاموا بتقييده من الخلف بربط يديه مع رجليه، بينما وضعوا “عقب اللّيل”، وهو مغمى عليه على كرسي وربطوه بحبل بشكل دائري، من مستوى القدمين إلى العنق.
بهذه الطريقة إذن، التي بلغت أقصى مستويات الغدر، كانت بداية “الاجتماع” الذي جاء ليترأسه “السي الطيب الوطني”، ووضع وأدار مؤامرته كل من” السي مبروك” و “بومدين”. وقد شارك في تمثيل مسرحيته أو شاهدها جمع من رجال الثّورة بالغرب الجزائر.
وبعدما تمكنوا من “عقب اللّيل” نقلوه وهو في هذه الحال، ودماؤه ما تزال تنزف إلى حيث كان الجميع في حالة ترقب وانتظار. فتفاجأ واندهش لهذا المشهد كل من كان لا يعلم بدسائس وخيوط المؤامرة من الحاضرين. بينما تنفس الصعداء أولئك الذين خططوا وتآمروا. ولكي لا يُفتح المجال لأي مبادرة بالتساؤل أو الاستفسار. فقد أسرعوا بدون تحفظ وبدون مقدمات إلى اتهامه بمجموعة من التهم والأكاذيب، كان أساسها التلفيق والمغالطات. ثم أخذوا يطرحون عليه السؤال بعد السؤال. وكان القصد من وراء ذلك، هو إفهام الجميع بأنهم موجودون في هذا المكان ليس لمجرّد حضور اجتماع لتدارس الخلافات، في إطار تجمع هام لقيادات الثّورة بالغرب الجزائري، كما كانوا يتصورون أو يتوقعون. وإنما حضورهم هو بمثابة مشاركة في محاكمة ملفقة ومزورة.
واستنادا إلى شهادة المجاهد “شنوف محمد”10، قائد القسم الثاني، وكان من المتواجدين في هذه المؤامرة. فإن كل شيء كان مدبّرا ومخططا له من وراء جميع الحاضرين. وأخذ كل من “بوصوف” و”بومدين” يطرحان عليه أسئلة، لم تكن لها أي علاقة أوصلة تمُتّ بما كان في أذهانهم من موضوع “الاجتماع”، وهو فك النزاع بين الطرفين وتوضيح بعض المواقف المتعلقة بالتسليح التصرف في أموال الثّورة.
أمّا الأسئلة فقد كانت من قبيل؛ لماذا كان “عقب اللّيل” لا يعترف ولا يمتثل لأوامر قيادتهم (قيادة وجدة). وأسباب توقفه عن إمدادهم بأموال الثّورة، والتي كان يجمعها في نطاق مسؤوليته بالقسم الخامس. وماذا كان يفعل عندما ينتقل إلى مدينة الناظور. وهل قابل “أحمد بن بلة” أثناء ذلك. وكيف قامت إحدى فرقه من المجاهدين بقتل (الحركى) الفلاني، دون الرجوع إلى قيادتهم. وكيف كان ينعت السي مبروك وهو مسؤوله الأول بـ “الكلب الأعمى”.
بعد الانتهاء من طرح هذه الأسئلة، التفت “بوصوف” نحو المجاهد “أحمد الوهراني”11، والذي كان نائبا عسكريا في تنظيم القسم الخامس كما سبق الإشارة إلى ذلك ليقول له:« لقد تعاملت مع المختار (عقب اللّيل)، فما هو رأيك فيه؟» (وكان قصده أن يجعله يدلي بأي شهادة ضد قائده). فما كان من هذا الأخير إلا أن أجابه وهو في حالة من الارتباك الشديد؛«…كلكم تعرفون جيدا من هو المختار، وتعرفون شجاعته وأعماله ضد الاستعمار… وكل المجاهدين يشهدون له بالشجاعة والبطولة .. فماذا أقول أكثر من ذلك…».
عند ذلك قاطعه “بوصوف” بحدة قائلا:« …نعم نحن نعرف كل ذلك، ونعرف كذلك بأنه كان يملأ جيوبه بالحلوى، ثم يقوم بتوزيعها عليكم مثلكم مثل الأطفال…».12
لقد التزم “عقب اللّيل” الصمت طيلة هذا “الاجتماع” المؤامرة. لأنه كان شبه فاقدا لوعيه، وكانت حالته متردية من جراء ما تلقاه من ضربات قاتلة. ورغم ذلك ففي لحظة من اللحظات أخذ الجميع يستمع إليه وهو يقول؛ بأنه لا يعترف بهذه القيادة التي تقيم في مدينة وجدة، وبأنه لن يتكلم عن أي شيء أمام هذه العصابة إلا بحضور “العربي بن مهيدي”. ثم بعد ذلك صوّب نظراته نحو “بوضياف”، وهو الذي سأله عن سبب نعته لـ “بوصوف” بذلك النعت، قائلا له عليك أن توجه إليه هذا السؤال، فهو يعرف جيدا لماذا!
بهذه الكلمات المقتضبة أظهر للجميع موقفه، وعدم اعترافه وعدم مبالاته بما يصدر منهم من ادعاءات وأكاذيب ملفقة.
وعلى إثر هذه الكلمات بدأت تتعالى بعض الأصوات، من هنا وهناك. وكانت تصب كلها في موقف واحد. بأنه من الضروري تسوية هذا الخلاف وهذا الصراع بالعمل على نقل السي مختار (عقب اللّيل) إلى منطقة أخرى وليكن ذلك نحو الجنوب (منطقة الصحراء). وهي فكرة كانت شائعة في وسطهم حتى قبل تدبير هذه المؤامرة. بل كثيرا ما كانت تقترحها عليه عصابة وجدة كلما كان يلح عليها بضرورة الالتحاق بالثّورة داخل الجزائر.
أمام هذه البلبلة التي باتت تنبئ بتشتت في الآراء وانقسامات بين الحاضرين، وبالتالي أخذت تدفع بمجريات الأمور بعيدا عمّا كان مبيّتا ومخططا من وراء هذا التجمع المشبوه. أمام هذا كله، لم يتمالك “هواري بومدين” نفسه أمام هذا الموقف حتى نهض واقفا بعصبية شديدة؛ وهو يقول للجميع ويؤكد؛ بأنه ليس هناك أي مجال للتفاهم. ثم سحب على الفور ورقة بيضاء13 وانطلق يمررها من واحد لآخر بسرعة فائقة، ويأمر كل واحد أن يكتب اسمه ثم يوقع . بهذه الطريقة انتقلت هذه الورقة عبر جميع الحاضرين، ولم يحدّد عليها بعد موضوع أو سبب التوقيع. والجدير بالذكر في هذا الموقف؛ بأنه لم يكن هناك من بين الحاضرين إلاّ رجلا واحدا وهو ” السي بوسيف” قائد القسم الثالث، الذي كانت له القدرة والجرأة بأن يعلن رفضه ويمتنع عن التوقيع. حيث قال لبومدين، عندما قدّم له هذه الورقة؛«…ابتعد عن وجهي أنت وورقتك. فلن أشارك في هذه المهزلة.. .ولن أتورط في هذه المؤامرة، لقتل بطل من أبطال الثّورة، وإنّي بريء من كلّ هذا…».
وفي هذه الأثناء عاود “عقب اللّيل” لفت انتباه الجميع، وهو يقول كلمته الأخيرة:«…لقد فهمت ماذا تريدون أيها…».
وهنا أقترح عليهم أمرا لم يخطر على بال أحد، وكان مفاجئا لهم جميعا، عندما طلب نقله إلى المنطقة الحدودية، حيث يوجد مركز للجيش الاستعماري. كان يعرفه جيدا، وهو قريب من مزرعة “الرافيل”. ليقوم بالهجوم عليه. فيقتل ما يقتل من عناصر العدو، ثم ينال الشهادة بطريقة الأبطال الشجعان. وهي الغاية التي كان يسعى إليها دائما، ويطلبها في كل معاركه مع العدو، عند ذلك انبهر الجميع، وأخذ كل واحد منهم يتبادل النظرات مع الآخرين. في هذه الأثناء قفز واقفا مرة ثانية، هواري بومدين، وهو يقول:«…لا ينبغي أن نتركه ليفعل ما يريد.. ولا يمكن أن نثق به مهما كانت الظروف، فكلكم تعرفون خطورة هذا الرجل…»14.
هكذا عبر “عقب اللّيل”، وهو في آخر لحظة من حياته، عن موقفه الثوري البطولي واستعداده للتضحية بأي طريقة كانت في سبيل الجزائر. بينما عبرت قيادة وجدة من جهتها عن مدى حقيقتها التآمرية، وعن رغبتها العمياء في الانتقام من بطل ثوري أحرجها شديد الحرج. وهو يطاردها ويدعوها للدخول إلى الجزائر، أرض الثّورة والمعركة. بدلا من الهروب والاختباء كالأطفال والنساء في مساكن وجدة.
لقد قتل خنقا وهو في نفس الحالة والوضعية، مقيدا على الكرسي. من طرف المدعو “بوشقور” وجماعته. وهم من الفرقة المنفّذة للقتل التابعة لـ”بوصوف”. ورغم مطالبته في آخر موقف له، بأن يدفن داخل التراب الجزائري، فقد اكتفى هؤلاء الإرهابيون المجرمون برمي جثته وجثة “عبد الرزاق بختي”، والذي قتلوه بنفس الطريقة، على الشريط الحدودي قريبا من مزرعة (فيرمة) الرافيل. بعدما عمدوا إلى تشويه الجثتين بصورة وحشية، لكي لا يتمكن أي أحد من التعرف على شخصيتهما. وبعد مرور بضعة أيام، عثر على الجثتين أحد المواطنين المغاربة وهو من سكان منطقة “هلانقاد”، فقام بدفنهما في نفس المكان.
بعد تنفيذ هذه الجريمة النكراء، عن طريق الخديعة والغدر، في حق بطل ثوري مغوار. لطالما حاول الجيش الاستعماري عبثا النيل منه. وهو الذي منذ البداية، قدّم نفسه وأفراد أسرته واحدا واحدا، وجميع رجال عشيرته للتضحية فداء لتحرير الشعب الجزائري. ثم في حق بطل مغوار آخر (بختي عبد الرزاق)، وهو يعد من أصغر المجاهدين الذين انضموا إلى الثّورة الجزائرية في سن مبكرة. فقاتل الجيش الاستعماري في معارك متعددة. أقول بعد ذلك مباشرة، أخذت استخبارات وعناصر “بوصوف” تنشط وتنشر بين الناس والمناضلين والمجاهدين جميعا دعايات وأكاذيب مختلفة لإخفاء حقيقة المؤامرة. ثم أخذوا يدفعون الناس، بوسائل الترهيب والتهديد إلى تصديقها ثم ترويجها. خاصة وأن جماعة المتآمرين كانوا يعلمون ويدركون مدى مكانة هذا الرجل الثوري وتأثيره في أوساط المناضلين والمجاهدين. والحال فإنّهم كانوا متأكدين بأنّ تسرب أي شيء عن هذه المؤامرة سوف تنجرّ عنه ردود فعل عامة بين المجاهدين، يصعب بأي حال التحكم في مجرياتها. ومن بين الدعايات والأكاذيب التي روّجوا لها بشدة تلك التي تقول؛ بأن “عقب اللّيل” قد طلب من القيادة تحويله إلى منطقة الصحراء فكان له ذلك، وقد اصطحب معه رفيقه “بختي عبد الرزاق”، ولتأكيد هذه الدعاية وجعل الناس يصدقونها، فقد عمدوا إلى كتابة رسالة مزورة باسمه وبعثوا بها إلى أخيه15. وقد أتقنوا تزوير هذه الرسالة التي جاءت تتضمن خبر تحويله إلى الصحراء. حتّى أنه جاء فيها التأكيد على كونه كتب هذه الرسالة وهو في حالة استعجال وفي طريقه إلى القيادة الجديدة. وقد حرصوا أشد الحرص بأن يذكروا في هذه الرسالة المزوّرة البعض من الأحاديث والآيات القرآنية، التي كان من عادته أن يذكرها ويستشهد بها أمام المجاهدين في مواقف ومناسبات معينة. كما أنّه لم يفت هؤلاء المتآمرين بأن يرددوا في هذه الرسالة المزورة الجملة الرائعة، التي لطالما كان يقولها للمجاهدين. عندما كانوا يتذكرون أولادهم في المواقف العصيبة:«في اليوم الأول لم نعاهد أولادنا، وإنما عاهدنا الشعب الجزائري، لكي نحرره»
الرسالة المزورة المنقولة من اللسان الدارج إلى اللغة العربية
« بسم الله الرحمن الرحيم »
إلى حضرة أخي العزيز عليك أشرف السلام مع الرحمة والبركة على الدوام من عند أخيك الذي لا يخفي عليك اسمه “عبادي“16
أخبرك بأني طلبت البدل من القيادة وقد وافقوا على ذلك وقد انتقلت بالفعل، ولم أستطع الوصول إليك لأنه لم يكن لدي وقت فأرجو أن تسامحني.
لم أخبرك على القسم الذي ذهبت إليه حفاظا على السر والعمل هو الذي سيعرفك بذلك، ونحن ثلاثة من رؤساء الأقسام قد انتقلنا. أما من ناحية أولادي، فإن النظام هو الذي سيتكفل بأمرهم، وهم كأي واحد من الجزائريين.
لقد طلبت أن يتنقل معي عبد الرزاق17 ووافقوني على ذلك وقد ذهب معي.
إذا كنت ترغب في مراسلتي، فاكتب الرسالة وقدمها إلى النظام، فهو سوف يوصلها إلي ، ولا تفكر في هذا لأن الكفاح والجهاد ليس فقط في مكان واحد، وقال الله تعالى:«وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم…».
أطلب منكم المسامحة يا أخي لعدم رؤيتكم قبل مغادرتي وأنا شاعر بمدى حيرتكم لعدم مجيئي في هذه المرة عندكم، وقد كتبت لك هذه الرسالة وأنا في الطريق.
أما من ناحية أولادي فلا تتحيّر عليهم فقد كتبت رسالة إلى الأخ “الميلود” ليقوم برعايتهم، وفي اليوم الأول لم نعاهد أولادنا وإنما عاهدنا الشعب الجزائري لكي نحرره.
اقرأ سلامي إلى أولادي كل واحد باسمه وإلى عبد الرحمن وأولاده والميلود وأولاده وإلى كل من يسأل علينا. وعلى “خليل” وأخيه أحمد وإليه بوسيف وإلى أفراد كل الجماعة الذين كنت تلتقي بهم كل واحد باسمه.
من كان لله كان الله له.. إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أوامره ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه.
والسلام على من في قلبه الإيمان وروح الأخوة ويحب الأعمال والسلام.
« عبادي في يوم 20 سبتمبر سنة 1956 «
ولم تتوقّف هذه الهستيريا من الأكاذيب لإخفاء المؤامرة عند هذا الحد. بل أخذوا يدسّون بين الناس مرة تلو المرة، من يدّعي زورا وبهتانا بأنه شاهد بأم عينيه، أو التقى بـ”عقب اللّيل” في هذا المكان أو ذاك. وفي ذات الوقت فقد لجأوا تزامنا مع كل ذلك، إلى ملاحقة ومتابعة الكثير من مناضليه. خاصة أولئك الذين كانت تربطهم به علاقات نضالية أو حميمة. فمنهم من سلطوا عليه الإرهاب. ومنهم من نكّلوا به. ومنهم من قتل. ومنهم من انصاع للأمر الواقع، ودخل في زمرتهم خوفا أو لحاجة في نفس يعقوب. بل والأعظم من ذلك، فقد بلغ الاضطراب بعصابة وجدة بعد جرمها الشنيع، أن منعت كل إنسان مهما كانت الأسباب أن يذكر اسم “عقب اللّيل” أو السي مختار في أي ظرف من الظروف. فتجسّسوا من أجل ذلك على المناضلين والمجاهدين وأرهبوهم أيما إرهاب.
أما حال جنوده بالقسم الخامس، وبعد أن فشلت مهمة القائد الجديد الذي عينته عصابة وجدة ليقوم مقامه وهو بوعيزم مختار المدعو “ناصر”، حيث قوبل برفض شديد. ولم يستطع المكوث في منطقتهم أكثر من شهر واحد. فقد لجأت قيادة وجدة بعد ذلك، إلى تحويلهم وتشتيتهم (سواء كانوا ضباطا أو مجاهدين أو مناضلين) عبر مختلف الأقسام والمناطق. والجدير بالذكر في هذا المقام، بأن الأغلبية العظمى من هؤلاء المجاهدين قد استشهدوا في معاركهم ضد جيش العدو. ومنهم من كانت لهم بطولات مشهودة. من أمثال؛ السي عبد الحميد بوزيدي، وأحمد الحاج، ومعروف عبد الرزاق، والزيتوني، وغيرهم، وهم لا شك كثيرين.
ويمكن القول بعد هذا؛ بأن شخصية “عقب اللّيل”، أو السي مختار، بقيت رغم كل ذلك، حية بين الناس طيلة سنوات الثّورة، ثم ما بعد الثّورة. الكلّ ظل يتساءل ويتطلع إلى معرفة شيء من أسرار اختفائه الغامض والمجهول. فحيكت حوله، منذ ذلك الحين، الحكايات والقصص المختلفة. معظمها كانت من صنع الناس، أو من نسج الخيال. لا سيما أن قيادة وجدة لم تذّخر جهدا من أجل إخفاء الحقيقة والتستر عن المؤامرة والجريمة. فتحولت هذه الشخصية إلى ما يشبه الأسطورة الشعبية. فتغنت بها النساء18، وسميت بها أسماء الأطفال، فنقلها الكبار إلى الصغار. وهكذا كتب لهذه الشخصية الثّوريّة البقاء، واستمر اسم المختار أو “عقب اللّيل” يذكر عبر السنوات الطوال، رغم استماتة قيادة وجدة، خاصة “بوصوف” و”بومدين” في سعيها إلى طمس بطولات وتضحيات هذا الرجل الثوري الأصيل، الذي اعترف بمكانته الأعداء قبل الأصدقاء. فاعترف الجيش الاستعماري بما له من شأن، منذ بداية الثّورة التحريرية. كما ظل رمزا وحديث الناس والمناضلين والمجاهدين في الشجاعة والبسالة، أثناء الثّورة وكذلك في عهد الاستقلال. ثم جاء دور السلطة الرسمية لتعترف به، ولكن بعد عشرات السنين. فقامت في عهد الرئيس الشاذلي بن جديد عام 1985 بإعادة الاعتبار والاعتراف بمكانته الثّوريّة. ليتم نقل رفاته ورفاة رفيقه الشهيد بختي عبد الرزاق، وإعادة دفنهما بمقبرة “العالية” بالجزائر العاصمة. وذلك طبقا لمرسوم رئاسي يقضي بإعادة دفن جميع ضباط وقادة الثّورة التحريرية، الذين استشهدوا في ظروف “المؤامرات والغدر”. بل وأعظم من ذلك، فقد نال هذا الشهيد الرمز، تكريما جديدا وعزة وشرفا عندما نوّه وأشاد بشخصيته الثّوريّة الفذّة السيد؛ عبد العزيز بوتفليقة، رئيس الجمهورية في سياق خطابه الموجه إلى الجمهور الجزائري من مدينة تلمسان عام 1999، لا سيما وقد أسداه وشرفه في ذات الوقت، بوسام الأثير من منصب الاستحقاق الوطني. وذلك طبقا للمرسوم الرئاسي رقم 99-136، المؤرخ في
04 جويلية1999 .
في الوقت الذي كان فيه “عقب اللّيل” يخوض في ميدان الثّورة معركة متواصلة محفوفة بجميع المخاطر، ويعمل على تثبيت أقدام الثّورة التحريرية على مستوى المنطقة التي تولى المسؤولية فيها، مستخدما كل ما توفر للمجاهدين من إمكانيات. بحيث كان جيشه لا ينتهي من مواجهة إلاّ لكي يبدأ مواجهة أخرى. في هذا الوقت بالذات كان المتآمرون والذين هربوا إلى الخطوط الخلفية ليتفرغوا لمشروع السلطة والحكم. وهو مشروعهم الفعلي والحقيقي الذي جاءوا به وتبنّوه بطريقة غامضة منذ انطلاق الثّورة التحريرية. عوض الخوض في الثّورة مع المجاهدين ومواجهة المخاطر والأهوال. أقول كانوا في أرض المغرب يضعون ويرتبون أبخس الأساليب والطرق في الخيانة والغدر. وينسجون خيوط المؤامرة الدنيئة. وقد لجأوا في ذلك – كما هو معلوم- إلى أساليب بالغة المكر والغدر. لم يقدر حتى الجيش الاستعماري من فعلها. رغم أنّ “عقب اللّيل” أصبح بالنسبة إليه الشخص الأشدّ خطورة ومطلوبا إن كان حيا أو ميّتا وبأيّ ثمن. ولا عجب فقد أضحى هذا الرجل الريفي الثائر هدفا وعدوا مشتركا بين الطرفين (الجيش الاستعماري وقيادة وجدة) فهو بقدر ما تصدى للجيش الاستعماري وأوقع في صفوفه الخسائر تلو الخسائر، بقدر ما واجه وفضح قيادة وجدة بعد هروبها واستقر بها المقام في بلاد الهجرة بعيدا عن ميدان الثّورة والقتال.
محمد بوضياف
عُرف هذا الرجل أثناء الحركة الوطنية، بمشاركته السياسية في صفوف حزب الشعب الجزائري، ثم في حركة انتصار الحريات الديمقراطية. ومن ضمن ذلك تصدّره في الفتنة والصراع السياسي الذي أدّى إلى تقويض أركان هذا الحزب الأخير. ومن جهة أخرى فقد اِتّهم بأنّه كان المتسبب الرئيسي في كشف خلايا المنظمة السرية الخاصة، والتي كانت تهيئ للمقاومة المسلحة ضمن تنظيمات حزب الشعب، من قبل الشرطة الاستعمارية بناحية قسنطينة عام 1950. وقد أدّى ذلك إلى قتل واعتقال البعض من أعضاء هذا التنظيم السري. وقد واجهه بهذه الحقيقة – كما هو معروف- السيد؛ عبد الحميد مهري، الأمين العام لحزب جبهة التحرير الوطني، من خلال مواجهة نظّمتها التلفزة الجزائرية عام 1992.
ساهم في تأسيس اللجنة الثّوريّة للوحدة والعمل، ثم في نشأ جبهة التحرير الوطني واندلاع الثّورة التحريرية عام 1954. وفضلا عن ذلك، فقد تولى أماكن قيادية في الثّورة التحريرية بصفته عضوا في المجلس الوطني للثورة الجزائرية عام 1956. ثم عضو لجنة التنسيق والتنفيذ، ثم بصفته وزير للدولة في الحكومة المؤقتة، ثم نائبا لرئيسها فيما بعد.
بعد الاستقلال مباشرة خاض مع الخائضين صراعا مريرا للاستحواذ على السلطة. ولم يكن له في هذا الشأن أيّ حظ. وقد طغت على حلبة الصراع جماعة وجدة إلى جانب جماعة تونس. وعلى إثر ذلك لجأ إلى تأسيس حزبه الذي سماه؛ حزب الثّورة الاشتراكية، عام 1963، وكان أمله كبيرا بأن يحظى من خلال هذا بتأييد ومساندة الأممية الشيوعية، إلا أن هذه الأخيرة كان قد وقع اختيارها منذ مدة، على تزكية وتدعيم أحد المنتمين إليها،كان أكثر إيمانا بمبادئها وأشد حماسة، ألا وهو “هواري بومدين”. وبتأسيسه هذا الحزب أعلن معارضته للنظام القائم ورجاله. وما لبث بعد ذلك أن ارتحل إلى الخارج، بعدما أيقن بأنه أصبح هدفا للاغتيال والتصفية، من طرف نفس العناصر الذي لطالما شاركهم أو تورّط معهم في مؤامرات الاغتيال أثناء الثّورة التحريرية. ولم يتردد هذا النظام آنذاك في أن يحكم عليه بالإعدام غيابيا عام 1964.
بعد فترة قضاها يتنقل بين فرنسا والمغرب، فقد استقر به المقام في مدينة قنيطرة المغربية. وهي مدينة –رغم صغرها- كانت في ذلك الوقت تستقطب عناصر مختلفة من الاستخبارات العالمية. لقد تم استقدام محمد بوضياف إلى الجزائر عام 1992 بعدما تم إغرائه بتحقيق حلمه الذي ظلّ يراوده منذ أن كان في الحركة الوطنية. ألا و هو تولي منصب الرجل الأول في النظام. وقد تحقق له ذلك بعد دهر من الزمن، ولفترة وجيزة. والجزائر ترنح تحت ثلاثة شرور: نظام سياسي صنيع سلطة عسكرية و جهاز استخبراتي عقيم و مقيت حكم عسكري مقيت، تطرف ديني همجي تلبّس بلباس مسيحية العصور الوسطى و تسلط إدارة المفرنسين، ورثة التراث الاستعماري البائد. وبعد تولّيه السلطة بالجزائر في هذه الظروف الهوجاء الغامضة، فلم يجد من قرار هام يتخذه، كفاتحة لسلطته سوى قراره المشبوه بتجميد العمل بقانون اللغة العربية. وهو القرار الذي فتح المجال واسعا (وما زال الباب مفتوحا إلى يومنا هذا) أمام اللغة الاستعمارية وثقافتها للانتشار من جديد في أرض الثّورة. بعدما كانت تحتضر وفي طريقها إلى الزوال. وهو عمل وسلوك متعصب اتسمت به الفئات الفرنكفونية الوارثة الشرعية لمطالب الاندماجيين (الاندماج في المجتمع والثقافة الفرنسية) أثناء فترة الحركة الوطنية. وقد جاء هذا القرار ولا شك مكذبا ومناقضا للاسم الذي كان يلقّب به أثناء الثّورة التحريرية، وهو “السي الطيب الوطني”. وليت شعري؛ أي وطنية تكون لرجل يزدري (يكره) ويحتقر لغة وطنه، مهما ساد في أهلها الضعف والتخلف والهوان.
وقد تمّ اغتيال محمد بوضياف في 29 جوان عام 1992، وهو في المنصة يوجه خطابا يشرح فيه سُبل النمو والتطور. فشاهد المجتمع الجزائري برمّته هذا الاغتيال بطريقة مباشرة.
عبد الحفيظ بوصوف
لقد تولى النائب الثاني للعربي بن مهيدي، بينما تولّى الحاج بن علّة النائب الأول في قيادة الثّورة بالغرب الجزائري. وذلك فور انطلاقها في أول نوفمبر عام 1954. وقد مكث ينتقل في قيادته للجهة الغربية عبر المناطق الحدودية، من جهة لأخرى إلى أن اتخذ قراره المشبوه، ألا وهو نقل قيادته إلى مدينة وجدة المغربية أوائل عام 1956.
وهناك تكونت حول شخصيته “جماعة وجدة” والتي ظلت تحت قيادته المباشرة إلى جانب هواري بومدين، طيلة سنوات الثّورة التحريرية. وقد أنشأ إلى جانب ذلك وفي ذات المدينة نظاما للاستخبارات والشرطة السرية، إلى جانب جماعة سرية أخرى، كانت تدعى من طرف العامة “جماعة الشكارة” أي الكيس. وهي جماعة تتشكل من عناصر محدودة من حيث العدد. ومدرّبة أحسن تدريب. تقوم بخطف ضحاياها، وطريقتها في ذلك، إقحام رأس الضحية في الكيس (الشكارة)، ثم دفعه بعد ذلك إلى داخل السيارة، لينقل إلى مكان مجهول ليلقى مصيره.
والملاحظ في هذا الصدد، أن عبد الحفيظ بوصوف، قد اتبع في طريقة تنظيمه للاستخبارات والشرطة السرية طريقة زعيم الأممية الشيوعية “تروتسكي”، عندما فعل ذلك وهو يعيد تنظيم الجيش الأحمر السوفياتي كما أوضحها في كتابه: “دفاع عن الإرهاب” والّذي صدر عام 1920.
كما انتهج أسلوبه وقلّد خطواته التي كانت تتمثل – كما هو معلوم- في ممارسة الإرهاب، وحبك المؤامرات، والتصفية الجسدية. وذلك من أجل التغلب وقهر المعارضين والشعار في ذلك؛ الغاية تبرر الوسيلة.
وهكذا فقد عرف عن هذا الرجل بأنه كان لا يتردد في ممارسة المكر والخداع، ويقوم بذلك في سرية تامة. من ذلك على سبيل المثال؛ فقد كان من عادته أن يبدأ بتلفيق تهم كاذبة عن طريق اختلاق الإشاعات ضدّ خصومه ومعارضيه. كما كان يستبق إلى تكوين ملفات حولهم ملفّفة يحتفظ بها ليشهرها عند الحاجة إليها. وهو وإن كان من أسلوبه اتخاذ قرارات المؤامرة بطريقة غامضة وسرية. فهو حين تطبيقها، فلا يقوم بها إلاّ من خلال إشراك وتوريط جميع أفراد جماعته كما كان يتجسس بشكل مستمر على قادة الثّورة، ويجمع كلّ صغيرة وكبيرة حول شخصيتهم وأسرارهم، خاصة الفاعلين منهم والمتميزين بحيويتهم. وقد كان يجنّد لذلك عناصر شبانية كوّنهم في العمل الاستخباراتي لا فطنة لهم ولا ضمير. وهو يوهم الجميع بأنه إنّما يفعل ذلك مضطرا وبدافع الذود عن مصلحة الثّورة (من مدينة وجدة) وحسب ما تقتضيه شرعيتها.
ومن المهم في هذا الصدد الإشارة إلى بعض الجوانب من شخصيته الغامضة وسلوكاته المشبوهة، كما عرفها جميع المجاهدين أثناء وجوده بأرض الثّورة بالمنطقة الحدودية الغربية. أي قبل رحيله إلى مدينة وجدة. فقد كان حريصا أشدّ الحرص أن تظل شخصيته الحقيقية مجهولة مبهمة، حتى بالنسبة للخاصة من المجاهدين. فلا أحد منهم يعلم من أين يجيء وإلى أين يذهب. واستمر ينتقل من مكان لآخر دون أن يستقر. أما عناصر الاتصال في نظام الثّورة والذين كانوا يتولون الانتقال به (ممتطيا ظهر بغل أو حمار) فلا أحد فيهم كان يعرف من هو هذا الشخص. بل أكثر من ذلك، فقد كان لا يسمح لنفسه أن يبيت في الجهة الواحدة مرتين. إلاّ إذا تعذّر ذلك. لا يثق في أي شخص، ولو كان من المقربين. يتظاهر بالطيبة والبساطة ويتعامل مع كل مسؤول في الثّورة بوجه ويدعي بأنه مؤيد له بصورة مطلقة. ولأن الرجل سرعان ما أدرك بأنه لا يستطيع الاستمرار في إخفاء شخصيته والتنكر لحقيقته بهذا الأسلوب الملتوي، وبهذه الحالة من التستر والخوف والتهرب من المخاطر أو تجنبها، دون أن يثير حوله الظنون والشكوك. خاصة في أوساط المجاهدين الذين يتمتعون بالفطنة والتجربة الثّوريّة. أقول؛ سرعان ما اهتدى إلى مخرج يجنّبه مشقّة ذلك الحرص الشديد والتصنع والقلق المستمر، وذلك عندما اتخذ قراره بالانتقال بقيادته إلى مدينة وجدة، أين استقر به الحال وغمره الاطمئنان، ونأى بنفسه عن جميع أسباب الفزع والخوف. هذا من جهة، أما من جهة أخرى، وإذا تأملنا المستوى التنظيمي والتقني الذي كوّن على أساسهما خلايا الاستخبارات ضمن جماعة وجدة، وهو المستوى الذي كان يرقى إلى مرتبة الاستخبارات العالمية. فلا يسعنا حينئذ إلا التساؤل عن مصدر تلك الخبرة الدقيقة في العمل الاستخباراتي. ومتى تكوّن فيها. وما هي الجهة التي كانت وراء ذلك؟. ولا شك فقد يزداد تساؤلنا هذا أشد إلحاحا وأكثر موضوعية، حينما نعرف بأن هذا النظام الاستخباراتي الذي أنشأه في مدينة وجدة لم يكن في يوم من الأيام (بحكم طبيعة تنظيمه الإرهابي) موجها للتجسّس ضد الاستعمار، أو التعاطي مع ملفاته السرية، كما قد يتبادر إلى الذهن. بل على العكس من ذلك كله، فقد ظلّ هذا النظام طيلة الثّورة التحريرية موجها بشكل مباشر إلى صناعة المؤامرات والاغتيالات التي طالت الكثير من رواد الثّورة بالغرب الجزائري.
وبعد كل هذا؛ لعله من المهم أيضا الإشارة، إلى أنّ هذا الرجل رغم مكانته القيادية في الثّورة بالغرب الجزائري. ثم بعد ذلك على مستوى الثّورة في نطاق الوطن. فإنه رغم ذلك، لم يكن يطمئن ولا يثق في تنظيماتها ولا في رجالها. وما يؤكد ذلك كونه لجأ في أواخر الثّورة، -كما صرح لي هو بذلك قبيل وفاته- إلى نقل ملفه الخاص بالثّورة التحريرية من وجدة إلى الخارج. وقد أودعه باسمه في إحدى البنوك بإيطاليا. وهو ملف يحوي قصص الاغتيالات التي لفّق أحداثها ووضع مؤامراتها كما أراد وخطط، دون أن ينازعه أو يحاسبه أحدا على ذلك. ولا عجب، فقد ورّط فيها جميع أفراد قيادة وجدة. ولا يزال هذا الملف -حسب ظني- قابعا في مكانه في غياهب النسيان.
وانطلاقا من هذا يمكن القول؛ لعله من شأن هذا التصرف الغامض المشبوه أن يوحي بأن الرجل ربما قد أودع كذلك وباسمه الشخصي “قدرا” من أموال الثّورة في البنك الإيطالي نفسه. ولعلها هي ذات الأموال التي أخذ يستثمرها في السنوات الأولى بعد الاستقلال. سواء بالجزائر أو الخارج. وذلك رغم ادعائه وإصراره بأنه إنما أقام هذه المشاريع والاستثمارات بمساعدات خاصة، جاءته من بعض أصدقائه الأثرياء في الحكومات العربية.19
من عساه أن يكون إذن هذا الرجل الذي استأمن وهو مطمئنا بنكا أجنبيا على أسرار الثّورة التحريرية، وهي من الخطورة بمكان. عوض أن يلجأ إلى تنظيمات الثّورة وأجهزتها. وقد كانت مختلفة ومتنوعة وما عسى أن تكون شخصيته الحقيقة. خاصة إذا ما علمنا بأنّه قد انشغل انشغالا كليا في أثناء الأشهر الأخيرة قبل وفاته عام 1979 بتحضير دراسة دقيقة ومفصلة عن الحالة العامة للشعب الجزائري، كما كانت سائدة في تلك الفترة. وهي حالة من الانحطاط الاجتماعي والاقتصادي والسياسي. وهي ذات الظروف العامة –حسب فرضيته- التي كانت سائدة قبيل الاستعمار الفرنسي عام 1830. وكانت وراء ضعف الشعب الجزائري ووقوعه فريسة للاستعمار. والموضوع كما أعلم، بقدر ما هو من اختصاص واهتمام الأبحاث والدراسات العلمية الجامعية. ولم يكن الرجل تربطه أي صلة بهذا، وما كان ينتسب إلى هذا المجال. بقدر ما هو أيضا، موضوعا من صميم اختصاص الاستخبارات العالمية المتطورة. حيث تلجأ إلى إنجاز مثل هذه الموضوعات، خاصة عندما يكون الهدف من وراء ذلك، هو التهيئة والإعداد لإحداث تغييرات جذرية أو انقلابية في شعب من الشعوب والانتقال به من وضع مضطرب متدهور إلى وضع أكثر تطرف وتدني، ليسهل بعد ذلك التخطيط له وتوجيهه نحو أوضاع معينة، تفرض عليه الخنوع والانقياد بصورة مطلقة. من هي إذن الجهة الاستخبراتية التي كلّفته بإنجاز هذه الدراسة و هذه المهمة؟.
هواري بومدين
التحق بالثّورة التحريرية في شهر أبريل عام 1955 بالمنطقة الحدودية بالغرب الجزائري؛ بعدما قدم من جمهورية مصر رفقة جماعة من الشباب الجزائري وهم؛ شنوفي عبد القادر(الذي أصبح معروفا باسم “السي عبد القادر”)، وعرفاوي محمد الصالح (أصبح اسمه الثوري “السي بوسيف”)، ومنقاوي علي (عرف باسم “الشيخ سنونسي”). وقد جاء هؤلاء جميعهم20 في الباخرة “دينا”، التي كانت محملة بالسلاح، وقد أرست في ساحل صغير قريبا من مدينة الناظور المغربية، في شهر مارس عام 1955. وقد أشرف على هذه العملية- كما هو معروف- وقام بتنظيمها وترتيبها بالقاهرة السيد أحمد بن بلة.
لقد عمدت قيادة الثّورة بعد ذلك، ممثلة في القائد العربي بن مهيدي ونائبه عبد الحفيظ بوصوف، إلى تعيين هؤلاء الشبان الملتحقين بالثّورة قادة أقسام بمناطق مختلفة بالغرب الجزائري21. وقد استثني من هذه التعيينات هواري بومدين، حيث ما لبث أن اختفى عن الأنظار ما يزيد على شهر، ليظهر من جديد في المنطقة. وعند ذلك أوكل العربي بن مهيدي أمره إلى عبد الحفيظ بوصوف قائلا له:«…لم أجد ما افعل بهذا الرجل .. فعليك أن تتصرف في أمره…»، وحينئذ أسرع هذا الأخير بتعيينه مدربا عاما للجيش. ومن المؤكد فإنه لم يمارس هذه المهمة في الميدان الثوري إلا فترة قصيرة، وسرعان ما انتقل صحبة عبد الحفيظ بوصوف إلى مدينة وجدة، أين استقرت قيادتها بصورة فعلية. وهناك أخذ يرتقي في الرتب والمسؤوليات العسكرية في محيط ثكنة “العربي بن مهيدي” في نفس المدينة إلى أن بلغ أعلى المسؤوليات في جيش الثّورة التحريرية، وهي رئيس الأركان. ومن الواضح فإن كل هذه المسؤوليات والرتب العسكرية، لم تكن نتيجة لاقتحامه لميدان الثّورة أو لتعدد مواجهته لمخاطرها. ولا نتيجة لخوضه غمار المعارك وتألقه فيها. ومن الملفت للانتباه حقا فإن هذا الرجل قد “حصد” أو غمرته بطولات الثّورة التحريرية جميعا، ثم استأثر انطلاقا من ذلك دون غيره “بالزعامة” في عهد الاستقلال، وما كان في يوم من الأيام بطلا22 من أبطالها الحقيقيين. وكيف يتسنى له ذلك وهو لم يشارك قط في معركة من معاركها. بل لم تخرج من سلاحه رصاصة واحدة صوب جيش العدو. رغم تواجده في بعض الأحيان (قبل رحيله إلى مدينة وجدة) في محيط هذه المعارك وقريبا منها. ولعله كان حريصا- كما قال بعض المجاهدين الذين استفسرتهم في هذا الأمر –بأن يلتزم بمسؤوليته كمراقب لا غير، ومن موقع آمن ومأمون. وقد كان له في ذلك بطبيعة الحال تخطيطا وحسابات شخصية وهو الأمر الذي لم يكن يخطر على بال المجاهدين المقاتلين وهم يواجهون جيش العدو بروح جهادية تغمرها روح التضحية الوطنية. بل وعلى النقيض من كل ذلك، وفي ميدان آخر، وهو ميدان الغدر والمؤامرات. فقد كان له دورا حاسما في قتل واغتيال الكثير من أبطال الثّورة الحقيقيين، سواء أثناءها من أمثال؛ “عقب اللّيل”، وبوسيف، واليمني، والزبير. أو في عهد الاستقلال، من أمثال: خيضر، وكريم بلقاسم، وشعباني، وغيرهم كثيرين.
بعد الاستقلال تولى منصب وزير الدفاع الوطني ورئيس الجمهورية حينئذ أحمد بن بلة. وما لبث أن نفّذ ضدّه انقلابا عسكريا في 19 جوان عام 1965. ومن دواعي العجب فقد ظل الشعب الجزائري يحتفل بهذا الانقلاب العسكري بوصفه انتصارا يضاف إلى انتصارات الثّورة التحريرية. والحقيقة أنه كان بمثابة أول صدمة عنيفة تلقاها الشعب الجزائري في وحدته وانسجامه. فكان هواري بومدين من خلال ذلك، هو أول من أسس لنظام سياسي يقوم على حكم وتسلط عسكري من جهة، وعلى إدارة (بيروقراطية) فرنكوفونية ورثت أساليب الاستعمار، من قمع ومنع وعراقيل ومعوقات من جهة ثانية، وعلى توجهات وخطوات الأممية الشيوعية من جهة ثالثة. وهكذا فقد أدى هذا النظام السياسي القمعي والذي كان ينكل بل ولا يتورع في اغتيال كل معارض، أو مخالف للنظام باسم الثّورة والوطنية. أقول؛ أدى إلى زعزعة المجتمع الجزائري، وإلى اضطراب عظيم في هويته وشخصيته الثقافية، فشكل هذا النظام وهذا الأسلوب السياسي القمعي، الذي كان يخفي الأممية الشيوعية ويظهر “العروبة والإسلام” طيلة الفترة 1965-1978، البيئة الاجتماعية والنفسية المتردية المناسبة لنشأة وظهور تطرف من نوع آخر (كرد فعل)، هو التطرف الديني الذي اتضحت ملامحه وتجسدت معانيه وأبعاده في ظاهرة “الإرهاب” عام 1992.
وقد توفي هواري بومدين وهو رئيسا للدولة الجزائرية على إثر إصابته بجلطة دماغية ناذرة الوقوع عام 1978 .
1 هذه النقطة بالذات هي التي يمكن أن نفسر من خلالها كيف تمكنت جماعة وجدة، بعد الاستقلال مباشرة –بقيادة “بوصوف” متسترا و”بومدين” بصورة علنية – من القضاء على جميع مراكز القوى الأخرى في الثّورة، ثم التفرد بالحكم والسلطة بعد ذلك.
2هؤلاء الشبان هم: أبو مدين أبو بكر، عبد الحميد شريف بن موسى، مصطفى الحصار، جلالي قارة سليمان، المدعو “جلول”.
3لقد تنبه “عقب اللّيل” إلى مثل هذه الاتصالات السرية، من خلال ما كان ينقل إليه من معلومات من طرف بعض عناصره الملتحقين بصفوف العدو داخل المركز الاستعماري بسيدي مجاهد، وهم في نفس الوقت على اتصال بنظام الثّورة. ومن المعلوم أن هذا المركز كان يعد من أخطر المراكز الاستعمارية بالمنطقة. سواء في التقاط الأخبار أو القتل السري أو التعذيب. ولعله من المفيد هنا أن أشير بأن الشهيد؛ حميدي الطاهر، المدعو “الزبير”،وهو بطل وقائد ثوري بارز، قد اكتشف هو الآخر أمر هذه الاتصالات اللاسلكية المجهولة واتهم قيادة وجدة بأنها كانت وراء افتعالها وتوجيهها إلى مراكز العدو. بقصد التآمر وقتل بعض قادة الثّورة المعارضين بطريقة غير مباشرة. كما اتهمها بالإضافة إلى ذلك بالتآمر والقتل لكثير من أبطال الثّورة. كما اعتبرها (قيادة وجدة) غير شرعية وخارجة عن نطاق النظام الثوري. ومن أجل ذلك فقد دبرت هذه القيادة ضده مؤامرة كبرى انتهت باغتياله عام 1961.
4 من المعروف بأن “عقب اللّيل” كان متمكنا في جمع الأموال الطائلة للثورة بحيث ذهب بعيدا في هذه العملية، وذلك عندما فرض بطريقة سرية على الكثيرين من المعمرين دفع اشتراكات شهرية للثورة، بعد تهديدهم بحرق وتخريب مزارعهم وممتلكاتهم.
5 كان يتولى نقله إلى مدينة الناظور أحد المناضلين يدعى، محمد البوري.
6 لقد اتضح فيما بعد، أن الشخص الذي كلفته قيادة وجدة باغتيال “عقب اللّيل” هو الرائد”عبد الوهاب”، وهو من رجال هذه الجماعة، كان معروفا بالسكر والعربدة في مدينة وجدة. وقد ظل هذا الرجل على اتصال مستمر بالرئيس بومدين بعد انقلاب 19 جوان 1965.
7 النزعة الجهوية؛ هي الشعور والإحساس بارتباط الأفراد في مصيرهم بجهة معينة من الوطن والتعصب لذلك. وهي من بقايا العصبية القبلية والحياة البدائية.
8 كان والد هذا المجاهد “بن بلال علي” مقيما بمدينة وجدة، وفي حالة مرض شديدة. الأمر الذي جعله يتصل بـ”عقب اللّيل”، ليعبر له عن رغبته في ملاقاة ابنه ومشاهدته بعد أن فارقه منذ وقت طويل. ومن المعلوم فقد كتبت الحياة لهذا المجاهد الشاب، الذي التحق بصفوف الثّورة في سن مبكرة، وخاض خلالها عدة معارك. وقد تولى بعد الاستقلال مسؤولية رئيس دائرة وهران، ثم عميد المحامين بنفس هذه المدينة.
9 لقد استولت قيادة وجدة بعد ذلك على هذه الأموال. حيث قام شخص ما من الذين استأمن عليها بالإبلاغ عن مكانها، خوفا أو رغبة في استرضاء هذه القيادة أو اتقاء لشرها.
10 المجاهد شنوف محمد، المدعو – السي عبد القادر، قدم من مصر في باخرة “دينا” الحاملة للسلاح، وكان برفقته كل من هواري بومدين وعرفاوي محمد، المدعو – السي بوسيف-، وهو من وادي الزناتي، ومنقاري علي،المدعو –الشيخ سنوسي- من الأخضرية. ومن المعلوم أن هذه الباخرة أرست في شهر مارس عام 1955 على مرسى صغير قريبا من سواحل الناظور المغربية، ليس بعيدا عن السواحل الجزائرية.
11 لقد قامت عناصر من استخبارات “بوصوف” باستقدامه إلى جلسة المؤامرة، بعدما اعترضوا طريقه في أحد الشوارع وأرغموه على الركوب معهم في السيارة، بعد أن أوهموه بأن القيادة تنتظره لشيء خطير وهام.
12 كانت تلك عادة من عادات “عقب اللّيل” قبل الثّورة وأثناءها، بأن يبادر بإعطاء قطعة حلوى لكل من يلتقي به، قبل بداية الكلام، كعنوان للمحبة وصفاء النفس. والواضح بأن “بوصوف” ذكر هذه المعلومة في هذا الموقف وأمام الجميع. ليلفت انتباههم، بأنه الرجل الذي يعرف دقائق الأمور عن الأشخاص. و لا يغيب عنه أي شيء، مهما كان تافها. وهو أسلوب من أساليب التعامل الاستخباراتي لتخويف الآخرين، وتهديدهم في نفس الوقت.
13 لعل هذه الورقة التي تحمل أسماء المتورطين في التوقيع ما تزال محفوظة ضمن الوثائق الخاصة الذي أودعها “بوصوف” باسمه الخاص بأحد البنوك بإيطاليا، وذلك في السنوات الأخيرة من الثّورة.
14 لقد عبرت قدر المستطاع باللغة العربية، بكلمات ومفردات ينطبق معناها أو يقترب، من اللسان الدارج الذي كانوا ينطقون به أثناء المؤامرة، والذي سمعته بدوري من المجاهد شنوف عبد القادر.
15 وهو بوزيدي قدور، مجاهد معطوب، ما زال على قيد الحياة. وقد أصيب بحالة الصرع وتوتر في الجهاز العصبي، بعد مكيدة أخيه.
16عبادي: هو عقب اللّيل
17 عبد الرزاق بختي الذي استشهد معه في المؤامرة.
18 من الكلمات التي كانت تغنيها النساء في المنطقة أغاني “الصف”، بعد اختفاء “عقب اللّيل” هذه الكلمات:
«هانا، هانا يا المختار وين راك، والبَرود يصيَّح من وراكْ»
بمعنى كيف تكون هناك معارك في الجبال وأنت غير موجود مع المجاهدين؟
19هذا ما قاله لي في إحدى المقابلات قبيل وفاته عام 1979، وقد كان يقول هذا لجميع زواره، من حين لآخر، قاصدا من خلال ذلك دفع الشبهات حول مصدر ثروته. خاصة بالخارج. وهذا الأسلوب هو الذي ميز عمله الاستخباراتي أثناء الثّورة التحريرية. وهو يتمثل في إطلاق الإشاعة عن طريق بثها في أوساط الناس، ثم انتظار انتشارها لتتحول بعد ذلك إلى “حقيقة” تتناقل تلقائيا بين الناس.
20 لقد ذكر صاحب كتاب”هواري بومدين الرئيس القائد” ادعاءا وكذبا بأن هؤلاء الشبان الذين قدموا في الباخرة “دينا” إنما كان هواري بومدين هو المشرف والمسؤول الأول في هذه الباخرة المحملة بالسلاح. والحقيقة هي غير ذلك، بل كان هو أصغر رفقائه وأقلهم مكانة وشأنا. وقد ذكر صاحب الكتاب أيضا في موضع آخر بأن هواري بومدين كان نائب القائد العربي بن مهيدي في قيادة الثّورة بالغرب الجزائري. والمعروف والمؤكد أن هذا القائد كان له نائبين هما: الحاج بن علة وعبد الحفيظ بوصوف حتى قبل دخول بومدين إلى الثّورة .
21 وقد جاء ذلك كتكملة لنظام قيادة الأقسام بالغرب الجزائري. حيث كان قد سبق تعيين نخبة من هؤلاء القادة (قادة الأقسام) قبل ذلك ببضعة أشهر. وكانت هذه النخبة تتكون من : بوزيدي أحمد (السي أحمد)، بوزيدي محمد (عقب اللّيل)، الصايم عبد القادر ( السي عبد القادر )، مطعيش عبد القادر (جابر) وقد أضيف إليهم بعد ذلك المسمى”فراج”.
22 إذا ما اعتبرنا أن صفة البطل الثوري إنما تصنع وتكتسب في ميدان المعارك والاستماتة في الأعمال الثّوريّة.
خــــاتــــمـــة الثّورة ومجرمو الثّورة
المجرمون خلال الثّورة التحريرية (1954-1962) الذين اقترفوا أبشع الإرهاب والتقتيل، إن كان علانية أو سرا، وخارج نطاق مواقع القتال وميدان المعارك و المواجهات المباشرة، و خارج نطاق الاعتبارات الإنسانية والأخلاقية أقول؛ كانوا يشكلون عصابات مختلفة ومتباينة. سواء من حيث الطبيعة والهوية، أو من حيث أسباب وظروف الجرائم. ورغم ذلك فيمكن القول؛ بأن هذه العصابات التي كانت تمارس مهنة القتل قد تشابهت إلى حد بعيد، خاصة في النزعة الهمجية العدوانية، وفي أساليب الغدر والدسائس والمؤامرات.
فقد كان هناك جنود وضباط الجيش الفرنسي ثم المرتزقة والحاقدون والعنصريون من المعمرين. هؤلاء مارسوا الإرهاب والتقتيل دون هوادة، مستخدمين في ذلك أشد التقنيات الحربية فتكا وأحطها دناءة وأكثرها همجية. فخاضوا إذن وبكل تأكيد حربا صليبية مستهدفين تصفية شعب بأكمله من التاريخ، بل ومن الوجود. فضلا عن تدمير الطبيعة وحرق الأرض والجبال.
وهناك مجرمون آخرون، من رهط الخونة والحركى. وهم أفراد من الجزائريين لم يكتفوا بالخضوع للنظام الاستعماري والانخراط فيه؛ بل اختاروا أن يكون وجودهم ومصيرهم مرتبطا بفرنسا الاستعمارية. فراحوا يقتلون الرجال والنساء والأطفال بدافع الحقد والكراهية متشبّعين بروح الانتقام ومتربصين بكل جزائري وطني رفض الخنوع لسلطان وسلطة الاستعمار.
كما كان هنالك مجرمون وقتلة جاؤوا من داخل صفوف الثّورة التحريرية. هؤلاء شقوا طريقهم في الثّورة التحريرية وقد اتخذوا من طريقة التصفية الجسدية والاغتيالات أسلوبا ومنهجا. وهو أسلوب إرهابي ظل متسترا في أحداث الثّورة ومتنكرا في شعاراتها ومتقمصا لمبادئها وأهدافها. وحيث أن هذه العناصر من قيادة الثّورة كان مشروعها (كأفراد أو جماعات) يتجاوز في مراميه الثّورة التحريرية وأهدافها المثالية، ويقفز إلى آفاق المستقبل، حيث الأهداف الحقيقية المرتقبة بالنسبة إليهم. ألا وهي السيطرة على السلطة وما يتبعها من نظام سياسي، وذلك عندما تصير الجزائر حرة مستقلة. إنّ هذا الرهط من القيادة كان لديهم وعيا ثاقبا وحرصا شديدا بعدم الإقدام على المغامرة، أو الارتماء في أهوال الثّورة بطريقة مباشرة. من مجرد منطلق وازع التضحية الوطنية. حتى أن نفرا منهم في الغرب الجزائري، لم يترددوا من أجل ذلك، في نقل قيادتهم إلى مدينة وجدة المغربية – أي نقل القيادة العسكرية للثورة بالغرب الجزائري إلى خارج حدود الثّورة – فتفرغوا منذ ذلك الحين لحبك الدسائس والمؤامرات. حيث وضعوا لهذه المهمة ولهذا الغرض نظاما في الاستخبارات والشرطة السرية كما سبقت الإشارة إلى ذلك. فطعنوا من الخلف من جراء ذلك وغدروا بكل ثائر وبطل طالبهم بالعودة إلى أرض المعركة، والمشاركة في الثّورة بطريقة مباشرة. بدلا من التموقع خارج الحدود الجزائرية، وقيادة المجاهدين من هنالك. أو ذهب فيما ذهب إليه من نقد ومعارضة لسلوكاتهم الغامضة الملتوية. أو حاول التساؤل والاستفسار في موضوع صرف أموال الثّورة أو تبذيرها في أغراض ومصالح شخصية. أو كل من استنكر تصرفات بعض أفراد هذه القيادة المريبة في مدينة وجدة، أو اكتشف ما كانت تخفيه وتنطوي عليه من أسرار ومخططات لا تمت بأي صلة بمقتضيات الثّورة وتوجهاتها. من أجل كل ذلك وغير ذلك من الأسباب التي ما زالت خفيّة، فقد طعنوا من الخلف وغدروا بكل قائد ثوري أصيل كان شديد في مواقفه، أو برزت في شخصيته الثّوريّة من جراء العمل الميداني والنضالي بعض سمات الزعامة، من جدة وجرأة وإقدام. وهي الخصال التي كانت تشكل بالنسبة لهم عائقا وتهديدا مباشرا، سواء فيما له علاقة بتنفيذ أهدافهم ، ما ظهر منها وما خفي ، إن كان في الحاضر أو في المستقبل، أو فيما يخص الهروب والاستمرار في الاختفاء و تجنّب أهوال الثّورة.
بهذه الصورة إذن، ومن أجل كل ذلك، لم تتردد قيادة جماعة وجدة في اغتيال خيرة رجال الثّورة وأبطالها البارزين في المنطقة الغربية الحدودية. من أمثال “عقب اللّيل” وبوسيف1 واليمني2 والزبير3. والحقيقة أقول فكل واحد من هؤلاء الشهداء كان وبشكل متفاوت، مصدر قلق لهذه الجماعة. خاصة في تلك الأمور التي تتعلق بالاستحواذ على سلطة وأموال الثّورة والإقامة في مدينة وجدة. فضلا عن كشف أسرارها ومؤامراتها أمام كافة المجاهدين.
ومن دواعي العجب والاستغراب، بل أقول من دواعي المكر والخديعة، فقد نفّذت هذه القيادة المتآمرة جرائمها ضد هذه النخبة من أبطال الثّورة، كما ضد غيرهم من رجال الثّورة المعارضين، تحت ستار “مصلحة الثّورة”. هذه المصلحة التي كانت حسب أكاذيبهم وادعاءاتهم مغيبة وغير حاضرة في أذهان وأعمال هؤلاء الأبطال الثوريين، وهم يخوضون في الميدان المعركة تلو المعركة، ضد جيش العدو الاستعماري داخل أرض الثّورة. بينما كانت مصلحة الثّورة حاضرة ومجسدة في شخصهم وهم يعيشون حياة السياحة والعربدة، وينامون في كل يوم على الأسرة، نوما عميقا في مدينة وجدة، ويستيقظون في كل مرة بأمن وسلام؟
ومن كل ما سبق ذكره أخلص إلى القول؛ بأنه شتان بين ثورة هؤلاء المتآمرين الذين ظلوا متوارين في الصفوف الخلفية بمدينة وجدة المغربية، وبين ثورة عقب اللّيل وأمثاله المجاهدين، وهي ثورة أصيلة صادقة، حملت في طياتها أبلغ معاني التضحية، في سبيل تحرير الوطن من قبضة الاستعمار. أو ليس هو الذي قال « لكم آلمني وحزّ في نفسي، وقد أرغمتني الظروف بأن أبيت البارحة على سرير في مدينة وجدة. وما أعظم هذه الراحة الذي أشعر بها اليوم , وأنا نائما متكئا على عصا في هذه الشعبة المتوحشة بأرض الجزائر. واقسم بالله العلي العظيم فلن أبيت مرة أخرى على سرير والثّورة قائمة ، وإلاّ فلن أكون ذلك الرجل الذي يستحق أن يسمى “عقب اللّيل”4.
1 بوسيف: هو الشهيد عرفاوي محمد صالح قائد القسم الثالث، دبرت له مكيدة الاغتيال عام 1957، بعدما أقنعه عبان رمضان بالدخول إلى مدينة وجدة ليلتقي ببومدين والحنصلي، فيما يخص تبادل مواقع المسؤوليات بين الداخل والخارج، وقد تمت تصفيته من أجل ذلك، بينما لفّقواغ له تهمة جائرة، وهي معاشرته لإحدى الجنديات.
2 اليمني: هو الشهيد؛ زهدور عبد الخالق. دخل في صراع مع قيادة وجدة ، بعد اطلاعه على بعض أسرارها. تم استدعائه من طرف بومدين لحضور “اجتماع” في مكان بجنوب وجدة، حيث غرر به و تم اغتياله هناك، عام 1959. وقد شاع حينذاك بأ الشهيد اليمني قد أوصى زوجته بأن تخبر الشرطة المغربية إذا لم يعد من هذا “الاجتماع”. وقد فعلت ذلك فقامت الشرطة المغربية بوجدة بالتحقيق مع بومدين في سبب اختفاء هذا الشهيد.
3 الزبير: هو الشهيد حميدي الطاهر كان رئيس منطقة وقد أعلن خروجه عن قيادة وجدة، حيث كان يطالب بتنحية هذه القيادة واستبدالها بقيادة أخرى من الداخل ، كما طالب محاسبتهم عن جميع مؤامرات الاغتيال التي دبروها لأبطال الثّورة كما ناهض هذه القيادة في كل ما يخص العبث بأموال الثّورة وطريقة شراء السلاح. وأخطر ما أثاره هذا القائد الشهيد واتهم به قيادة وجدة هو موضوع الاتصالات المجهولة التي كانت تنطلق من وجدة وتصل إلى مراكز الجيش الاستعماري، وهي تخبر عن أيام وأوقات عبوره أو تنقله مع فرق من جنوده في منطقة الحدود. وقد تم اغتيال هذا الشهيد عام 1961، في مؤامرة عرفت أبعاد خطيرة بمنطقة “عونية” جنوب وجدة.
4 لقد اشتكى بهذه الكلمات لأحد المجاهدين، بعدما اقترب منه ليوقظه وهو في هذه الحالة من النوم في إحدى الشعاب قريبا من واسار.